حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

انتهى الحدث والصورة مقلوبة

لا قمة اقتصادية في بيروت من دون سوريا. هكذا كانت أكثر المواقف التي ملأت الفضاء السياسي طيلة الأيام قبل الموعد المنتظر للقمة. غابت عن التصريحات النارية كل الهواجس عن أهمية احتضان بيروت لأكبر اجتماع عربي، وعن أهمية حاجة لبنان المختنق لهذه العودة العربية، وما يمكن أن تتركه من انعكاسات على كل الصعد من الاستقرار والاستثمار، مروراً بالسياحة وسواها.
غياب متأتٍ من أن أهل السلطة، الذين جمعتهم التسوية السياسية الشهيرة في عام 2016، تفرقوا أيدي سبأ: فريق القصر اندفع للإعداد والتحضير والتنظيم، وهو تحرك من منطلق أنه وجد في القمة فرصة مؤاتية ينعكس الاستثمار فيها على خدمة أهدافه السلطوية الآنية واللاحقة.
بالمقابل الفريق الذي عطل البلد 30 شهراً لـ«إقناع» كل الآخرين بأحقية رئاسة العماد عون للجمهورية، توجس من أن تكون هناك محاولة في مكانٍ ما للخروج عن المنطوق السياسي لـ«تفاهم» 6 فبراير (شباط) لعام 2006، الذي مُهر بتوقيع السيد حسن نصر الله والعماد ميشال عون، والذي شكل حجر الزاوية في كل النهج السياسي لـ«التيار الوطني الحر»، فاحتل الرئيس نبيه بري واجهة المسرح، إن بطرحه العنوان السوري لجعل قمة بيروت مناسبة للتطبيع مع نظام الأسد، أو بتذكر موضوع الإمام الصدر المغيب أثناء نظام القذافي والعودة للاستثمار فيه، وصولاً للتهديد بتكرار 6 فبراير 1984 العسكري. وفي كل هذا التحرك المدروس من فريق الثنائية الشيعية الذي حظي بمواكبة إعلامية لافتة، كانت القاعدة المعتمدة: نعم الرئاسة لعون؛ لكن التسوية السياسية لعام 2016 قضت بأن يكون المرجع والحكم والقرار النهائي لـ«حزب الله» ومن هم خلفه. وتحت هذا السقف تنعقد القمة العربية التنموية في دورتها الرابعة.
الآخرون في كل مواقعهم، حتى رئاسة الحكومة، اكتفوا بالمراقبة، وحتى التفرج على الاستعراضات المسلحة، والإساءة إلى سمعة البلد، كحدث حرق علم ليبيا، ودلالات ما يعنيه التحرك الميليشياوي لأصحاب «القمصان الخضر»، من تهديد للسلم الأهلي، وتوجيه رسالة للخارج مفادها أن الأمن مفقود في بيروت.
وحده النائب وليد جنبلاط غرّد عن «قوى ظلامية» عملت لتعطيل القمة، ما نبَّه إلى أبعاد خارجية وراء ما يجري، والهدف منع لبنان من استعادة احتضانه عربياً. وكي يكتمل «النقل بالزعرور» وكأن الممارسات الميليشياوية لم تكن كافية لخنق البلد، ساد الجمباز السياسي وطروحات الهواة، وتقديم أوراق الاعتماد للخارج في كل مراحل عمل القمة، من اجتماع وزراء الخارجية حتى البيان الختامي.
وبأي حال، ما صدر لا يتعدى كونه مجرد توصيات لن يتذكرها أحد، وتناسى أهل الحل والربط أين تكمن المصالح الحقيقية للبنان ولكل اللبنانيين.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فسبق للبنان في زمن ليس ببعيد أن استضاف قمة عربية: قمة بيروت عام 2002، وعاش كل لبنان أجواء مغايرة، فعلى أرضه التقى كل القادة العرب والمواقف التي أُطلقت ترددت على ألسنة العامة. تلك القمة أطلقت «مبادرة بيروت للسلام»، مبادرة ولي العهد السعودي (آنذاك) الأمير عبد الله، التي تقوم على مبدأ الأرض مقابل السلام، وحملت أكثر العناوين جرأة لسلام المنطقة، ما كان من شأنه أن يطوي عقوداً من الإرهاب الصهيوني والارتجال العربي، رغم كل الدماء والدمار وانفلات حالات من التعصب والتطرف، ووضع أُسس صلبة للأمن والازدهار ورخاء كل بلدان المنطقة. وكان لتلك القمة الأثر البالغ لبنانياً في شتى المجالات، والحق يقال إنها سجلت علامة فارقة في تاريخ القمم العربية.
نعود إلى القمة التنموية، سيبقى في الذاكرة أن السلطة اجتهدت فأقفلت الدوائر الرسمية، وأغلقت المدارس، فمنحت الطلاب أيام عطلة إضافية، وأدت الإجراءات إلى جمودٍ في الحركة الاقتصادية، بعدما فُرض الإقفال على الأسواق الرئيسية في وسط بيروت، وبعد العواصف الطبيعية التي ضربت لبنان، تسببت الإجراءات في إقفال أجزاءٍ رئيسية من الشاطئ البحري بوجه رواده، وهو ملجأ أهل العاصمة وسكانها، وكل ذلك من أجل قمة بلا ملوك ورؤساء وقادة، على النقيض من قمة بيروت عام 2002. وأكثر من ذلك، فإن ممثلي الدول العربية الذين توافدوا إلى بيروت، عوض أن يقطعوا الطريق الممتدة من مطار بيروت الدولي إلى أوتيل «الفينيسيا» وقاعة الاجتماعات في البيال، تحت الأعلام اللبنانية والعربية، كان عليهم المرور تحت لافتات فئوية، وتحت صور قادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وصور بعض قادة الميليشيات التي تدور في فلكها، الأمر الذي دلّ على مدى تحكم طهران وفريقها في القرار السياسي اللبناني.
بهذا المعنى، سجَّل لبنان سبقاً تاريخياً باستضافة أفشل محطة بتاريخ القمم العربية، محطة كشفت الهشاشة اللبنانية، وانكشفت عن مشهد لبناني مؤلم، تراوح بين ترف التنظيم وغياب كبار المدعوين. وامتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بشتى الاحتجاجات على هذا الإنفاق على قمة أفشلت قبل أن تُعقد، وعن البلد الذي أغرقته الطبقة السياسية (إياها) بديون لولد الولد، وهو بأمس الحاجة لـ«فلس الأرملة» لتأمين الماء والكهرباء وترميم الطرق ورفع النفايات ومواجهة بطالة تدمر معيشة الناس وحياتهم، إلى كل المعاناة اليومية.
انتهى الحدث والصورة مقلوبة، لا إيجابيات تذكر لحدث بحجم قمة عربية، وقد لا يكون منتظراً من أهل السلطة تقييم للخسائر. كانت الفرصة مؤاتية كي يستعيد لبنان بعض دوره وبعضاً من بريق ميَّز تاريخه، فيعود من موقع الحياد حيال حرائق المنطقة لوضع الشعار السياسي الذي اختاره في التطبيق، وهو شعار النأي بلبنان، فيعود ليلتقي حاضنته العربية. هذا المنحى كان يفترض بأهل السلطة، وخاصة من هم في الموقع الدستوري، رئاسة جمهورية ورئاسة حكومة، ودون التقليل من أدوار آخرين، حمل القمة وهموم لبنان إلى عواصم القرار العربي، والوصول إلى توافقات في السياسات العامة، فلبنان الذي حدَّد دوره آباء الاستقلال بشارة الخوري ورياض الصلح، بأنه لن يكون «لا مقراً ولا ممراً» للتآمر والعدوان على أشقائه العرب، هو بأمس الحاجة اليوم لاستعادة هذا الدور.
لم يحصل شيء من ذلك؛ بل جرى الاكتفاء بالتنظيم والتعامي عن أبعاد اختطاف الدولة، وتقديم لبنان على طبق لهيمنة النظام الإيراني. ولم يكن أهل السلطة يجهلون حجم الثمن الذي يفرضون على البلد تسديده، مقابل السير في ركاب مشروع دولة الولي الفقيه، وهيمنة أصحاب العمائم على بلد الأرز! لتتحول القمة إلى فرصٍ ضائعة تزيد من حجم صعوبات الزمن اللبناني المر.
بهذا الإطار يجب أن يُفهم الغياب الجماعي للقادة العرب عن قمة بيروت، بكونه رسالة سياسية حازمة ترفض الانحياز اللبناني إلى محور طهران، وعزله عن محيطه العربي. لبنان دخل القمة التنموية مأزوماً وخرج بأزمة أشد، وطريق استعادة المكانة والدور تمر حتماً بضرورة كسر اعتكاف المواطنين، وابتداع حراك حقيقي من خارج السلطة، من جانب الهيئات الاقتصادية والمهنية والفئات المتنورة؛ لأنهم قاطرة للناس، للتأثير في مرحلة خطرة تتم فيها إعادة تكوين السلطة وتموضع البلد في مكان معادٍ للمصالح الحقيقية لأهله.