د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

التقادم المدبّر

في العام 1922، صرح «هنري فورد» مالك ومؤسس شركة «فورد» للسيارات أثناء تدشينه لإحدى السيارات الجديدة «أن من يشتري هذه السيارة، لن يحتاج إلى أن يشتري سيارة أخرى في عمره»، في زمن كانت الأفضلية فيه للمنتجات الأطول عمرا، حينها كانت سيارات «فورد» تباع وبصحبتها أدوات الإصلاح، لكي لا يحتاج مالك السيارة حتى للذهاب إلى الورش. لم تكن هذه السياسة نافعة للشركات حينها، فمع طول عمر السيارات، لم يصبح لدى المستهلكين أي محفز لشراء سيارات جديدة بسبب استمرارية السيارات القديمة بالعمل بكفاءة، وتعرضت الكثير من هذه الشركات للإفلاس لاحقا. بدأت المصانع بعد ذلك بسنوات باتباع سياسة جديدة، ألا وهي تصميم منتجاتهم بحيث يمكن التحكم بأعمارها الافتراضية فيما يسمى بـ«التقادم المدبّر». ومنذ ذلك الوقت تباينت الشركات في اتباعها لهذه السياسة، وفي حين نفت الكثير من الشركات انتهاجها هذا السلوك، تثبت الكثير من الأحداث عكس ذلك.
ويعود سلوك «التقادم المدبر» إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث زادت التكلفة على المصانع بسبب تكوين نقابات العمال التي ساعدت في إقرار نظام الحد الأدنى للأجور، إضافة إلى فرض معايير جديدة على المصانع مثل إجراءات السلامة، التي زادت بدورها تكاليف التصنيع. ومع نهاية الخمسينات الميلادية، بدأت الشركات في تغيير سياساتها لتخفيض التكلفة، ووجدت أن بعض العملاء قد يفضل منتجات أقل ثمنا، حتى وإن كان هذا التوفير على حساب عمر المنتج، كما أنها استشفت أن عملاء آخرين يميلون إلى مواصفات أخرى في المنتج غير العمر الطويل، مثل الشكل والأداء. كان هذا حلا مثاليا لكثير من المصانع، التي بدأت بالفعل في تصميم منتجاتها بشكل يقلل من عمرها الافتراضي، وتوفير أشكال أكثر جاذبية لهذه المنتجات لتحفيز العملاء على الشراء. ولذا فالملاحِظ قد يرى الفارق بين المنتجات (وبالأخص المكائن) القديمة والحديثة، حيث تتميز القديمة منها على الجديدة بطول العمر، بينما تتفوق الحديثة بالشكل الجذاب.
ولهذا السلوك عيوب قد تتعدى ميزاته ومنها استهلاك الموارد بسبب كثرة الإنتاج والتأثير البيئي السلبي لذلك. إلا أن الجانب السلبي الأكبر يأتي من وجهة نظر المستهلك، الذي قد يحس بالتعرض للغش في حال علمه أن المصانع تصمم المنتجات بحيث تفقد فاعليتها بعد فترة من الزمن، وهو ما يعرض المستهلك لتكلفة إضافية بسبب كثرة تغيير هذه المنتجات. ولذلك، فإن هذا السلوك مضر بولاء المستهلكين للشركات، وهذا ما يجعل الشركات بين المطرقة والسندان، فهي إن صنعت منتجا يعمّر طويلا، كسبت رضى عملائها، إلا أن هؤلاء العملاء سيستمرون لفترة طويلة دون استبدال هذا المنتج، وإن صنعت منتجا ذا عمر قصير، كسبت المبيعات المستقبلية والأرباح قصيرة الأجل وخسرت ولاء عملائها. وهذه الحالة تحديدا تمر بمصنعي الهواتف الذكية حول العالم في وقتنا الحالي.
فعلى سبيل المثال، أراد الراحل «ستيف جوبز» مؤسس شركة «أبل» أن تضاهي شركته شركة «سوني» اليابانية في جودتها، وأقام إمبراطوريته على هذه السياسة، واليوم تملك أجهزة «أبل» عمرا طويلا مقارنة بغيرها من الأجهزة، وهذا ما قد يبرر ولاء عملاء هذه الشركة لها، وطوابير الانتظار في حال إصدار جهاز جديد. في المقابل فإن الشركة الآن تعاني من عدم استبدال عملائها لأجهزتهم القديمة بالإصدارات الجديدة، وذلك لأن الهواتف القديمة لا تزال تعمل بكفاءة، وخاصة مع برامج استبدال البطاريات التي أصدرتها الشركة مؤخرا، والذي قلل من حافز شراء الأجهزة الجديدة لدى العملاء، ولكنه زاد ولاءهم للشركة في نفس الوقت، وهو أمر قد يبدو جيدا للعملاء، ولكنه ليس كذلك للمستثمرين في «أبل» والذين يطمحون لزيادة العوائد. والحال كذلك لكثير من الشركات التي قد تقع في مأزق بسبب عدم وجود محفز كافٍ للعملاء باستبدال أجهزتهم، مما اضطر هذه الشركات لاستحداث برامج استبدال الأجهزة القديمة بالحديثة ودفع الفارق. ولكن الحافز يبقى منخفضا في حال لم يكن الفارق بين الإصدارين كبيرا، سواء في المظهر أو في التقنية والمواصفات.
إن التسلسل التاريخي لسياسات المصانع الإنتاجية والمالية يتضح من خلال إعلاناتها، فبينما كانت الشركات في الماضي تتنافس في إعلاناتها عن كون منتجاتها تعمر طويلا، نجد أن الشركات في هذه الأيام لا تحاول التطرق لهذه النقطة لأسباب منها الملاحقة القانونية، ومنها أنها لا تريد أن يبقى منتجها لدى المشتري لفترة طويلة. في المقابل، فإنها تبرز في إعلاناتها التقنيات المستخدمة في منتجاتها، مسوقة شكل المنتج وجاذبية استخدامه وتأثيره على أسلوب الحياة. وهو ما يوضح الاتجاه الاستثماري لدى هذه الشركات، فلم تعد متانة المنتج محور الصناعة، بل حلت التقنية وسيطر الإبداع مكان ذلك، وهو ما جعل هذه الشركات تستثمر بشكل ضخم في البحث والتطوير وقود هذه الصناعات، نتاج هذه التقنيات هو الحافز الأكبر للعملاء باستبدال أجهزتهم القديمة، حتى مع استمراريتها في العمل بكفاءة.