عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

وقت طويل في السياسة

«أسبوع هو فصل طويل في عالم السياسة»، قول الزعيم العمالي الراحل هارولد ويلسون (1916 - 1995) الذي أدخل تحديثات على كثير من القوانين القديمة أثناء ترؤسه لأربع حكومات بريطانية (1964، 1968، 1974، 1974 - 1976)، وقد عدلت القول في تعليقي على أحداث الأسبوع إلى: «يوم في وستمنستر هو دهر كامل في عالم السياسة» -
وأرجو ألا يتناسى الصحافيون حقوق التأليف عند استخدام التعبير.
أسبوع تغيرت فيه الموازين في أقدم البرلمانات، ولم تعد الأغلبية قادرة على تمرير القرارات، ونواب الحكومة صوتوا ضد حكومتهم أثناء التصويت التاريخي على اتفاقية الخروج من الاتحاد الأوروبي، وفي اليوم التالي صوتوا معها لإنقاذها من فقدان الثقة.
ولم تعد التوازنات داخل مجلس العموم بين حكومة على اليمين ومعارضة في مقاعد اليسار، فالحكومة ملتزمة بالخروج من الاتحاد الأوروبي، وزعيم حزب العمال المعارض الذي يفترض أن يناهض سياسة الحكومة ويقدم بديلاً لها كبرنامج انتخابي لحكومة الظل، غير قادر على معارضة السياسة فعلياً، لأن معظم ناخبي الطبقة العاملة الذين تذهب أصواتهم لحزبه صوتوا بالخروج من الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء.
في هذه التعقيدات التي قلبت الخريطة السياسية رأساً على عقب، ترى ماذا سيكتب مؤلفو المسرح الإنجليزي بعد 150 عاماً في مسرحياتهم التاريخية عن هذه الفترة، سواء عن صراعات السلطة والمؤامرات في كواليس وستمنستر، بصياغة ويليام شكسبير (1564 - 1616) لمسرحياته التاريخية كـ«ريتشارد الثالث» (1452 - 1485)، أو ربما اهتداءً بمسرحية شكسبير عام 1599 بعنوان «هنري الخامس» (1386 - 1452) التي صور فيها شعره معركة أجينكور (1415) التي ألحق فيها الإنجليز هزيمة منكرة بالفرنسيين قرب بلدة أجينكور شمال غربي فرنسا، خصوصاً بعد هجوم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على بريطانيا في خطابه هذا الأسبوع، منتقداً تصويت شعبها بالخروج من الاتحاد الأوروبي؟
وربما من يراجع عمود الأسبوع الماضي يرى ما نعنيه بالدراما الشكسبيرية لما دار في أم البرلمانات من صفقات (والبعض وصفها بمؤامرات) لتغيير أقدم الإجراءات المعتادة، التي اطمأنت الأمة إلى سلامتها وحمايتها لصحة سير العمل لعدة قرون، لأغراض عكس ما أعلن من صوتوا بتغييرها.
وأمام ساحة البرلمان، نصبت خيام الصحافيين وكاميرات التلفزيون والميكروفونات وأجهزة البث، بينما أضفت أعلام وطبول وأبواق وأزياء تاريخية للمتظاهرين، جو مهرجانات قرون مضت.
ومثل البرلمان، انقسم المتظاهرون إلى فقراء؛ أغلبهم من الطبقة العاملة، بملابس بسيطة، غاضبين مما اعتبروه مؤامرة يحيك الساسة خيوطها لسرقة قرار الأغلبية (17 مليوناً و410 آلاف) التي صوتت بالخروج من الاتحاد الأوروبي، لصالح الأقلية (16 مليوناً و141 ألفاً) التي صوتت بالبقاء. المطالبون بإلغاء نتيجة الاستفتاء والبقاء في الاتحاد الأوروبي، مستمرون في التظاهر يومياً أمام البرلمان طوال عامين، وهم منظمون، بأعلام وموسيقى وكثير من الشاحنات والعربات بلافتات كهربائية، فوراءهم مؤسسات علاقات عامة ووكالات تنظيم جماعات الضغط على البرلمانيين (تحقيق «الديلي تلغراف» 8 فبراير/ شباط 2018، وملايين قدمها المليونيرات ومؤسسات متعددة الجنسية التقوا وقتها في بروكسل لتنظيم حملة للحيلولة دون تنفيذ قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي).
نتيجة استفتاء عام 2016 للخروج من الاتحاد الأوروبي، حسب الدوائر البرلمانية الممثلة حالياً في مجلس العموم؛ 406 دوائر صوتت بالخروج و242 بالبقاء، وحسب المقاطعات الجغرافية، 263 مقاطعة للخروج و119 بالبقاء. وبالنسبة للحزبين الكبيرين؛ 148 دائرة عمالية خروجية مقابل 84 دائرة بقائية، وبالنسبة للمحافظين 247 مقابل 80.
الغريب أن النواب في البرلمان يعكسون الوضع، فأربعمائة يبذلون كل المحاولات لإبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، و248 فقط مع أغلبية الشعب يدعمون خياره بالخروج. هذا يعني أن 158 نائباً يمارسون عكس ما صوّت عليه سكان كل دائرة يفترض أنهم يمثلونهم.
الوضع في البلاد يستحق دراسة تاريخية.
الذين يقودون حملة لإجراء استفتاء ثانٍ (71 من نواب حزب العمال ونحو 10 من المحافظين ومثلهم من الديمقراطيين الأحرار وكل القوميين الأسكوتلنديين الـ35) متحمسون لإعادة الكرة إلى ملعب الشعب ليقرر، ويجادلون بأنها قمة الديمقراطية لأن الأمة فوق البرلمان، وكانوا عام 2016 رافضين تماماً لإجراء الاستفتاء، ومعظمهم لهم تسجيلات تلفزيونية ومقالات صحافية يرفضون فيها إجراء الاستفتاء في 2016 لأنه في نظرهم أداة النظم الديكتاتورية لا الديمقراطية. واليوم يعتبرونه قمة الديمقراطية؛ السبب بالطبع أنهم جميعاً من أنصار البقاء في الاتحاد الأوروبي، ويأملون أن يأتي الاستفتاء الثاني بنتيجة مغايرة للاستفتاء الأول.
أما القوميون الأسكوتلنديون فيدعون لاستفتاء ثانٍ على عضوية الاتحاد الأوروبي، لتكون سابقة بإجراء استفتاء يلغي نتيجة استفتاء جاءت على غير ما يتوقعونه، وعندئذ يدعون إلى استفتاء جديد على استقلال أسكوتلندا. فقد كان الأسكوتلنديون صوتوا برفض الاستقلال عن المملكة المتحدة في 2014.
وأكثر ما يستفز الطبقات الشعبية، ومعظمها صوّت بانفصال المملكة المتحدة عن الاتحاد الأوروبي، هو الشعور بأن الطبقة السياسية تستهين بذكائهم، ووعيهم بما يجري عندما يعلن الساسة الهدف من إجراءات أو حملة ما بينما يخفون الهدف الحقيقي عن الناخب.
ومن يطالبون بتأجيل الخروج النهائي من الاتحاد الأوروبي (ومحدد له 29 مارس/ آذار هذا العام) يقولون إنهم يريدون منع الخروج بلا توقيع اتفاق مع بروكسل، ويصرون على أن تسحب رئيسة الوزراء تيريزا ماي «تهديد» الخروج بلا اتفاق شرطاً للموافقة عليه عندما تعيد تقديمه للبرلمان غداً الاثنين، بعد رفضه يوم الثلاثاء الماضي.
رئيسة الوزراء مستمرة في استقبال النواب من بقية الأحزاب، والتفاوض معهم طوال الأيام الثلاثة الماضية واليوم (الأحد)، للاستماع لمطالبهم وإدخال التعديلات على مشروعها، طمعاً في الموافقة على صيغة تقدمها لبروكسل لإضافتها لمشروع الاتفاقية.
السيدة ماي مصرة على إبقاء التلويح بالخروج بلا اتفاقية ضمن شروط التفاوض مع الاتحاد الأوروبي، لأن أي رجل أعمال يدرك أن معرفة الطرف الآخر بالتزامك بالتوصل لصفقة سيجعله يتمسك بسعر مرتفع، أما إذا قدر أنك مستعد للمضي بلا صفقة سيقدم بعض المرونة في شروطه.
الحكومة التي خسرت تصويت الثلاثاء ستحتاج إلى الـ117 صوتاً الإضافية، بجانب 202 صوتوا معها. إذا استطاعت رئيسة الوزراء إقناع ثلثي 118 من نواب الحكومة الذين صوتوا ضدها، وقدمت ضمانات لنواب آيرلندا الشمالية العشرة بألا يشمل أي اتفاق معاملات جمركية وتجارية تجعلهم فريسة لابتلاع جمهورية آيرلندا، وتقنع نحو 15 من نواب «العمال» بجانب الثمانية المؤيدين لـ«بريكست»، فيمكنها أن تقنع البرلمان بأغلبية صوت واحد هذا الأسبوع، على صياغة تقدمها لبروكسل.
أو قد نشهد أسبوعاً آخر من مسرح اللامعقول في وستمنستر.