لستُ أدري، لو طُلِب من تشارلز ديكنز، واضع «حكاية مدينتين»، أن يكتب قصة ما عصف بحكومة تيريزا ماي من زوابع، منذ أطل كابوس «بريكست»، ثم قيل للروائي المبدع أنْ أقلع عبر الأطلسي، فانظر ما فعل سيد البيت الأبيض بحكومة أميركا، وقل للناس ما أنت كاتبٌ بشأن واقع الحكومتين ومستقبل كلٍ منهما، هل تراه سيذهب أبعد من القول إن حكومة واشنطن المُغلقة سوف تفتح، عما قريب، أبوابها من جديد، فتستأنف عملها كأن شيئا لم يكن، وأما المنقسم وزراؤها على أنفسهم بالمنزل رقم 10 الكائن في «داونينغ ستريت»، فالأرجح أنها راحلة كي تحل محلها حكومة تليق ببلد وازن، مثل بريطانيا.
رغم الاعتياد على مفاجآتها، تعجب، أحياناً، مما يُثار حولك من أعاجيب السياسة، وألاعيب صُنّاعها السياسيين. تزداد نسبة الاستغراب، عندما يتعلق الأمر بدول قطعت من أشواط التحضر ما يستحق الإعجاب فعلاً، ليس فقط في مسار ديمقراطيتها، وسلاسة تداول السلطة بين ساستها، وإنما كذلك في شأن ما تحقق على أيدي علماء مجتمعات الغرب، وعبقريي تقدمها في المجالات كافة، سواء في علوم الطب، أو ركوب سفن ترتاد الفضاء، تحاول اكتشاف آفاق كون لم يزل الجزء الأعظم من أسراره في طور ألغاز تنتظر فك طلاسم شفرتها. إنكَ، إذ تقارن كل هذا التقدم، بكل ما تنظر حولك من فوضى صنعها سياسيون يُفترض أنهم أذكى من التسبب بها، لا تملك إلا التساؤل: تُرى أيجوز الافتراض أن بعض الساسة في مختلف أنحاء الأرض، بصرف النظر عن اللون والجنس والعرق، يحملون جينات تخلف سياسي تسكن تحت مسام الجلد منهم، ومنهن؟
صحيح، هكذا هي الديمقراطية. يصح فيها وصف ونستون تشرشل الذائع الصيت، القائل إنها «أفضل الأسوأ». ذلك أنها قدر ما تتيح لعموم الناس الترشح والانتخاب، فيجلس تحت قبة مجلس العموم البريطاني، مثلاً، نوّاب اختيروا كي يعبِّروا عن ناخبيهم، حتى لو أتوا بمصيبة بريطانية اسمها «بريكست»، قدر ما أنها أيضاً قد تفتح الأبواب أمام أي إجراء سوف يؤذي مصالح أناس تزيد أعدادهم عن عشرات آلاف البشر لتصل مئات الآلاف، تماماً مثل الذي حصل لأكثر من ثمانمائة ألف مواطن أميركي تضرروا جرّاء الخلاف بين الرئيس دونالد ترمب والكونغرس الديمقراطي في شأن تمويل مشروع جدار المكسيك، وإذ فشل الحوار في توصل الطرفين إلى حل، سارع رئيس الدولة الأقوى في العالم، والأغنى، إلى إعلان أن «الحكومة مغلقة» حتى يذعن الديمقراطيون، كأنها واحد مما يمتلك ويدير ضمن إمبراطورية «بزنس» تتمدد بمختلف الأصقاع.
ليس هيِّناً أن يزعق عنوان صحيفة «ديلي تلغراف» اللندنية الأحد الماضي محذراً أن «حزب المحافظين يوشك على الانفجار من الداخل». هذه صحيفة تعتمد أسس الصحافة الرصينة. ثم هي تمثل واحداً من أهم منابر اليمين البريطاني، وبشكل أساس حزب المحافظين. وعندما ترفع الصوت عالياً، من منطلق الهجوم على تيريزا ماي، والدفاع عما تراه إخلالاً بالمنطق الأصح لتطبيق مشروع «بريكست»، وفق رؤية معسكر بوريس جونسون، وزير الخارجية السابق - وهو أحد كتابها النجوم - فإن ذلك يعني، ببساطة، أن استمرار رئاسة تيريزا ماي للحكومة يهدد بنسف وحدة الحزب، ما يوضح، بالتالي، أن أيام حكومة السيدة ماي باتت بالفعل معدودة، حتى لو خرجت من معركة تصويت نهار الثلاثاء (أمس) منتصرة بعدد أصوات ضئيل، وذلك أمر مستبعد.
نعم، من الصعب إجراء مقارنات بين عواصف الديمقراطية وزوابعها في مجتمعات تمارسها منذ سنين طويلة، فتقبل نتائجها، وتتجرع مُرّ كؤوسها، إذا لزم الأمر، وبين صراعات غير قائمة على أي أساس ديمقراطي، أصلاً، فيما يعرف بدول العالم الثالث. لكن، ربما لأن فلسطينيتي تأبى إلا أن تقتحم شجون غربتي البريطانية، سأفترض أنه لو قُيّض لكاتب فلسطيني تقمص شخصية تشارلز ديكنز فكتب نص مسرحية تحمل اسم «حكاية حركتين»، وختمها قائلاً إن صراع حركة «حماس» مع حركة «فتح»، مستمر بلا نهاية، لأن ساسة أكبر فصيلين رأوا، منذ زمن طال أكثر من أحد عشر عاماً، أن وجود حكومتين لشعب فلسطيني بلا دولة قائمة فعلاً وليس اسما فحسب، هو مظهر تقدم ديمقراطي لم يحظَ، وربما لن يحظى بمثله أي مجتمع على الأرض، ثم أتساءل: ترى أين سينتهي الحظ بفلسطيني يجرؤ على هكذا قول ساخر؟ حقاً، شر البلية ما يضحك، لكنه ضحك كالبكاء.
8:2 دقيقه
TT
حكومتان... مُغلقة وراحلة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة