د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

المحتوى المحلي والمشتريات الحكومية

ضمن خططها للتحول الاقتصادي، قامت حكومة المملكة العربية السعودية أخيراً باستحداث هيئة حكومية تعنى بالمشتريات الحكومية والمحتوى المحلي. وتتجلى أهمية هذه الخطوة في عدة أمور، أولها أنها تدور حول المشتريات الحكومية ذاتها، فهي تشكل نسبة لا يستهان بها من الإنفاق الحكومي، وتتفاوت نسب هذا الإنفاق في دول العالم من 15 في المائة إلى 20 في المائة من الناتج القومي العالمي، بحسب منتدى الاقتصاد الدولي.
وتنخفض هذه النسبة إلى 12 في المائة في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وبكل الأحوال وبحسب هذه النسب، فإن مجموع ما تنفقه دول العالم على المشتريات الحكومية يقارب 9.4 تريليون دولار. وبتقديرات الأمم المتحدة، فإن التسرب في هذه المشتريات بسبب الفساد وضعف الرقابة وانعدام الكفاءة قد يصل إلى 25 في المائة، وهو ما يكلِّف الاقتصاد العالمي مبلغاً يزيد على تريليوني دولار سنوياً. وعليه فإن إيجاد جهة حكومية واحد تكون مظلة لجميع المشتريات الحكومية هو خطوة مبررة لزيادة كفاءة الإنفاق الحكومي.
كما أن وجود مؤسسة واحدة للمشتريات الحكومية يعطيها فرصة لامتلاك قواعد بيانات تمكّنها من دراسة سلوك المشتريات الحكومية وتحسينه وزيادة الشفافية في عقود التوريد الحكومية. ويساعد أيضاً في تكامل المؤسسات الحكومية من خلال توحيد معايير المشتريات الحكومية بين مؤسسات الدولة، وتحديداً في المشتريات البرمجية، حيث يصعب التكامل على بعض المؤسسات الحكومية بسبب عدم تواؤم أنظمتها البرمجية.
أما الشق الثاني من الهيئة، فهو المحتوى المحلي، وهو الذي يرتبط في كثير من دول العالم بالمشتريات الحكومية، حيث تستخدم الحكومات مشترياتها الحكومية، أداةً استراتيجيةً لتطوير محتواها المحلي، من خلال دعم المؤسسات المتوسطة والصغيرة، بمنحها حق التزويد للمشتريات الحكومية. وبينما يندرج التدخل الحكومي في الحركة التجارية تحت اسم «سياسة الحماية الاقتصادية»، أو ما يعبر عنه بعض الاقتصاديين بـ«الحمائية الاقتصادية»، فإن تدخُّلها في المشتريات الحكومية هو حق مشروع ومتعارف عليه دولياً، ولم يسبق لدولة انتقاد أي دولة لاتباعها هذه السياسة.
وقد سبق لدول عدة حصر مشترياتها الحكومية (بشكل أو بآخر) على الشركات المحلية وعلى الأخص الشركات الصغيرة والمتوسطة، ومن هذه الدول بريطانيا وأستراليا وإسبانيا والولايات المتحدة إضافة إلى دول نامية مثل الإكوادور وزامبيا وجاميكا.
واختلفت سياسات الدول في دعمها للمؤسسات المتوسطة والصغيرة في هذا الشأن؛ فعلى سبيل المثال، تحصر أستراليا مشترياتها الحكومية في قطاع الاتصالات والمعلومات على الشركات المحلية، وقد يكون ذلك لعدة أسباب، منها أسباب أمنية، أو لأن الحكومة الأسترالية تريد تحفيز هذا القطاع تحديداً. وتقوم دول أخرى بتخصيص نسب من مشترياتها الحكومية للقطاع الخاص المحلي. وتنبع أهمية هذا الدعم للشركات المحلية، من معاناتها في دخول الأسواق العالمية بسبب حجمها، وصعوبة منافستها في السوق المحلية بسبب وجود المنافس العالمي في اقتصاد يقوم على الانفتاح على دول العالم، ولذلك فإن تمكنها من الدخول في سوق المشتريات الحكومية دون وجود منافس دولي لها يخلق تنافساً بين الشركات المحلية، وهو ما يعطي هذه الشركات حافزاً للنمو والتطوير. وقد أظهرت عدة دراسات أكاديمية وجود رابط إيجابي بين الابتكار وحصر المشتريات الحكومية على الشركات المتوسطة والصغيرة، وهو ما يؤكد أن وجود التنافس المحلي من مصلحة الاقتصاد الوطني. كما أن هذه الفائدة الاقتصادية تمتد إلى خلق وظائف يحكمها توسع هذه الشركات ونجاح هذا الربط.
إنشاء هيئة المحتوى المحلي والمشتريات الحكومية خطوة في الاتجاه الصحيح، بحسب دراسات الممارسات العالمية، إلا أن التحديات كبيرة أمام رئيس مجلس إدارتها، فبريطانيا تعيد صياغة قوانين هذه الممارسات منذ منتصف التسعينات إلى هذه الأيام، بحسب العوائق التي تواجهها الشركات المحلية. وما يدعو للتفاؤل في هذه الهيئة هو وجود القدرات التقنية التي تمكّنها من جمع وتحليل بيانات المشتريات الحكومية السعودية، ومقارنتها بالقدرات المتوفرة لدى الشركات المحلية، مما يمكنها من تحديد مراحل انتقال المشتريات الحكومية بشكل تدريجي، بحسب القدرات الحالية للشركات المحلية، ومن ثم الانتقال إلى مراحل متقدمة تستطيع بها هذه الهيئة أن تكون أداة استراتيجية للحكومة السعودية في توجيه الشركات المتوسطة والصغيرة إلى الاستثمار في القطاعات التي ترغب الدولة في تنميتها.