إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

آمون في فرنسا

يعشق الفرنسيون كل ما يتعلق بمصر القديمة. وهو عشق يقترب من الهوس وله اسم متداول: «إيجبتومانيا». وتصدر في كل عام كتب ومجلدات فخمة عن الآثار الفرعونية يقبل عليها القراء من كل الأعمار. لهذا ليس من الغريب أن ينشغل الفرنسيون، هذا الموسم، بمعرض عن خدمة المبجل آمون، إله الشمس والريح والخصوبة في المعتقدات المصرية القديمة، قبل ظهور الأديان السماوية.
هذا حدث ثقافي ذو طنّة ورنّة، يقام في متحف مدينة غرينوبل وبإشراف «اللوفر». وهو ينتشل الزوار من صقيع المدينة وينقلهم إلى دفء طيبة، 670 كيلومتراً جنوب القاهرة، حيث لا تتلكأ الشمس في الشروق منذ كذا ألف عام. وطيبة القديمة هي الأقصُر حالياً، يقصدها السياح من كل بلاد الدنيا بالطائرات أو بـ«الذهبيات» المتهادية في النيل. وهناك من المتقاعدين من يقتصد لسنوات لكي يقوم بتلك الرحلة. ومن أجلها «يكسر الخنزير»، حسب التعبير الفرنسي الشائع، لأن حصّالة توفير القطع النقدية تأخذ في العادة شكل هذا الحيوان. ومن لم يسمح خنزيره بتحقيق حلمه، فليس له سوى أن يزور غرينوبل ويقطع وادي الملوك بخطوات الخيال.
وطيبة مدينتان. أو عالمان يتجاوران. فالشاطئ الشرقي للنيل هو دار الحياة. يضج بها وبطقوس التعبد. أما الجانب الغربي فهو دار الممات. وهي بهذا تذّكرنا بالنجف في العراق، حيث «وادي السلام»، أكبر مقبرة في العالم، وغير بعيد عنها مجالس الأدب والفقه والحوزة والمراقد والمزارات. ما الإنسان سوى هذه الفسحة بين القوسين؟
لا يتوقف هذا المعرض عند ملوك الفراعنة، ولا عند أهرامهم العظيمة، بل يستعرض خلية النحل التي أحاطت بهم وشغلت دور عبادتهم. أي أنه يهتم بالعابد أكثر من المعبود، ويتتبع آثار الكهنة والمغنيات والعازفين والفنانين الذين كانوا في خدمة الإله آمون ولعبوا دوراً مهماً في حياة الكرنك، أكبر معابد مصر القديمة. وهو دور يصفه القائمون على المعرض بأنه ظل محاطاً بالغموض، وبالتالي، منبعاً للفضول. فالكرنك، في القرن الأول قبل الميلاد، كان مركزاً إدارياً، سياسياً واقتصادياً له وزنه. وبموازاة سطوة ملوك الفراعنة، شكّلت طبقة الكهنة والكاهنات قوة دينية تتحرك داخل حدود المعبد وتفرض قوانينها.
تعلمنا من التاريخ أن لكل كبير حاشية. وكلما كبر نمتْ حاشيته وتوسعت. وآهٍ منها حين تستفحل وتحبسه في خلخالها. فالخلل قد يأتي من الخلخال. والمثل البغدادي يقول: جاءتنا الحمّى من رجلينا، أي من داخل الجسم لا خارجه. لكن يبدو أن ما كل حمّى ضارّة. فهذه التي تتصاعد من متحف غرينوبل تأتي من النشاط «المحموم» للنساء في معابد الآلهة. ونحن نعرف الملكات الفرعونيات القويات، لكن دراسات حديثة تتوقف عند الدور المجهول لعابدات الإله آمون ومن جاء بعدهن من منشدات ومغنيات وحانيات من «ربات البيت». ويقول دليل المعرض إن بعثات آثارية تعكف اليوم على تقصي دورهن. وها هي توابيتهن ذات النقوش الثرية والمذهبة، تشهد على مكانتهن.
لماذا اختيرت غرينوبل، في الجنوب الشرقي لفرنسا، مكاناً للمعرض؟ لأن الكثير من المعروضات هو من مجموعة المقتنيات التي يحتفظ بها متحفها. وأمام الزائر 270 قطعة، منها ما جاء من لندن وبرلين. ولا داعي، هنا، للعودة لقضية الآثار المنهوبة أو محاولات استعادتها. تلك معركة تخوضها الدول بمساندة «اليونيسكو». يكفي القول إن في مصر من الآثار ما يكفي ليغطي عين الشمس، ولعلها تزيد على ما قال الشاعر عمر بن أبي ربيعة حين سئل: كم تحبها؟ أجاب: عَدَدَ النّجمِ وَالحصى والترابِ.