داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

فجأة صعدت الغيرة

فجأة، تصدرت الأخبار قاعدة عين الأسد (قاعدة القادسية سابقاً) ثاني أكبر القواعد الجوية في العراق، بعد قاعدة «بلد» الجوية. تقع في ناحية البغدادي في محافظة الأنبار، قرب نهر الفرات. بدأ تشييدها عام 1980 من قبل ائتلاف ضم مجموعة من الشركات اليوغوسلافية واكتملت عام 1987. تتسع لـ5000 عسكري، مع المباني العسكرية اللازمة لإيوائهم، مثل الملاجئ، والمخازن، وثكنات عسكرية، وملاجئ محصنة للطائرات، بالإضافة إلى المرافق الخدمية، مثل المسابح الأولمبية المفتوحة والمغلقة، وملاعب كرة قدم، وسينما، ومسجد، ومدرسة ابتدائية وثانوية، ومكتبة، ومستشفى، وعيادة طبية. إنها مدينة عسكرية كاملة.
فجأة، أصبح جل السياسيين العراقيين والميليشيات الموالية لإيران وطنيين أكثر من الشعب العراقي، الذي ذاق ويذوق الهوان والذل والجوع والتشريد والمعتقلات والويلات، منذ تسلط هؤلاء الفاسدين على مقدرات العراق في 2003، وحتى اليوم.
فجأة، ارتفعت شعارات «السيادة والأعراف الدبلوماسية» في مكاتب المنطقة الخضراء والميليشيات الفارسية بعد إهمال طويل، وشديد، ومتعمد، منذ أبريل (نيسان) 2003، حتى الزيارة المفاجئة التي قام بها الرئيس الأميركي دونالد ترمب للقاعدة العسكرية الأميركية «عين الأسد» يوم 26 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، لتفقد قواته الموجودة هناك بموجب اتفاقية رسمية بين البلدين في عام 2011، خلال حكم الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما ورئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي.
لم يشهد ترمب خلال الزيارة استعراضاً عسكرياً، ولم يصدر قراراً بطرد الميليشيات وإسقاط حكومة المنطقة الخضراء أو إعادة احتلال العراق في ساعات معدودة. جاء لتهنئة قواته على دورها في مطاردة عصابات «داعش» الإرهابية التي سحقت مدن وقرى السُنة تحديداً، وأعدمت أولادهم وسَبَتْ النساء والأرامل والأطفال، تحت نظر وسمع القوات الحكومية الطائفية التي هربت في وضح النهار.
فجأة، تفجر الغضب الإيراني بالنيابة: كيف يأتي ترمب من دون دعوة رسمية، ولا إشعار، ولا فيزا، ولا موكب، ولا سلام جمهوري؟ كيف هبطت طائرته في الأراضي العراقية من دون أن تكتشفها الرادارات العراقية؟ كيف لم يأخذ إذناً من رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي الذي كان إلى ما قبل خمسة أشهر لا يستطيع دخول المنطقة الخضراء في بغداد من دون موافقات أمنية؟
فجأة، نسي قادة الميليشيات ورئيس الوزراء ومجلس النواب، أن إرهابياً إيرانياً دولياً مطلوباً للعدالة، يدخل العراق ويصول ويجول ويخرج من دون تأشيرة ولا جواز سفر، اسمه قاسم سليماني، ويقتحم أسوار المنطقة الخضراء في الوقت الذي يشاء، ولا يطلب منه أحد إذناً أو موافقة أمنية أو يفتش سيارته؛ بل إنه مُنح من قبل المالكي قصراً من قصور المنطقة الخضراء، ليسكن فيه متى حلّ أهلاً ووطئ سهلاً.
فجأة، تذكر السياسيون والميليشياويون العراقيون الموالون لإيران ملفات السيادة والوطنية والكرامة والاستقلال، بعد أن علاها الغبار والعجاج سنوات طويلة ثقيلة على قلوب الشعب العراقي، من جنوبه إلى شماله. يا ليتهم يتذكرون هذه الملفات التي تحترمها كل شعوب الأرض، ويعودون إلى رشدهم، ويتذكرون أنهم يحكمون بلداً عميقاً في تاريخ التاريخ.
فجأة، هبطت طائرة الرئيس الأميركي في قاعدة «عين الأسد»، وهي قاعدة قديمة منذ زمن النظام العراقي السابق، تقع في محافظة الأنبار، غرب العراق قرب الحدود السورية. وكانت برفقته زوجته وأمن الرئاسة وبعض الصحافيين، ثم غادر الأراضي العراقية بعد ثلاث ساعات، هنأ فيها ضباط وجنود القاعدة بالعام الميلادي الجديد، والتقط صور «سيلفي» معهم، وتلقى اتصالاً هاتفياً من رئيس الوزراء العراقي، الذي رحب به وأبدى رغبته في الاجتماع معه، فاعتذر ترمب ووجه الدعوة لعبد المهدي لزيارة واشنطن، بعد أن اعتذر عبد المهدي عن عقد لقاء عاجل في القاعدة. أي أن هناك ترحيباً رسمياً بزيارته المفاجئة، على الرغم من ضجيج وصراخ الميليشيات «الوقحة» كما وصفها الزعيم الشيعي مقتدى الصدر في وقت سابق.
فجأة، في ظلام شبه دامس، هبطت طائرة ترمب في قاعدة «عين الأسد» وسط إجراءات احترازية مشددة، أطفأوا خلالها أضواء الطائرة وأغلقوا شبابيكها.
فجأة، «صعدت الغيرة» وقامت قيامة رؤوس الميليشيات: كيف؟ ولماذا؟ ولن وسوف وسنفعل. وكأن أحداً منهم لم يقرأ بيان عبد المهدي الرسمي الذي قال فيه: «إن الولايات المتحدة أبلغت الحكومة العراقية بزيارة ترمب يوم 26 ديسمبر (كانون الأول)؛ لكن تبايناً في وجهات النظر لتنظيم لقاء بين ترمب ورئيس الوزراء العراقي، أدى إلى الاستعاضة عنه بمكالمة هاتفية تناولت تطورات الأوضاع، وأن رئيس الوزراء رحب به ودعاه لزيارة بغداد».
فجأة، بدأت الميليشيات والنواب والموالون لولاية الفقيه في إيران، بث أناشيد اللطميات والتهديد بالويل والثبور، وارتفع صراخ الغضب، وعادت إلى الواجهة كلمات أهملوها طويلاً، مثل: «الأعراف الدبلوماسية، والسيادة العراقية، والانتهاك الصارخ للسيادة». وطلب بعضهم من ترمب «أن يعرف حدوده، وألا يتعامل مع الحكومة العراقية باستعلاء؛ لأن ذلك مرفوض جملة وتفصيلاً».
فجأة، طالبت هذه الميليشيات الإيرانية بالتوحد في مطلب السيادة الوطنية و«وضع حد للوجود العسكري الأميركي المشبوه على الأراضي العراقية». أما الوجود الإيراني المسلح «اللذيذ» فهو لزيارة «العتبات المقدسة»، والدعاء لنا ولكم بطول العمر.