ميغان أوسوليفان
بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
TT

الولايات المتحدة وتحديد العلاقة مع بغداد

جاءت زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب للعاصمة العراقية بغداد الأربعاء الماضي خطوة إيجابية صغيرة وسط أسبوع من القرارات المتوالية. ومن البديهي أن يركز الإعلام على الوقت الذي قضاه ترمب وسط القوات الأميركية، لكن الهدف الأهم للزيارة هو تعزيز ثقة الحكومة العراقية الجديدة في الولايات المتحدة؛ ذلك لأن المسؤولين العراقيين كانوا من أكثر المصدومين من قرارات الرئيس الأخيرة المتعلقة بسحب القوات الأميركية من سوريا وأفغانستان. ربما أن الرئيس قد أدرك أن لدى إدارته بعض المهام الجادة التي ينبغي لها القيام بها إن كان هو نفسه جاداً في عزمه عدم مساعدة إيران.
إن الشرق الأوسط منطقة معقدة؛ وهو ما جعل أجيالاً من الرؤساء الأميركيين يجدون صعوبة بالغة في تحديد أولويات المصالح المتضاربة، وتحقيق التوازن بين العلاقات الحساسة، وإبرام اتفاقيات المقايضة الحتمية. لكن تصرفات ترمب وكلماته، على الأقل حتى الأسبوع الماضي، أوضحت أن هدف احتواء إيران ومعاقبتها يحتل قمة أولوياته، بهدف دفعها إلى الجلوس على طاولة المفاوضات بغية الوصول إلى اتفاق جديد يحدث تغيرت شاملة في الاتفاق النووي، وفي سلوكها الذي دأب على زعزعة أمن المنطقة.
وقد أدى التركيز على إيران إلى تغيير أولويات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط إلى حد بعيد. وقد شكلت الرغبة في اتخاذ السعودية شريكاً قوياً في المساعدة على احتواء إيران عاملاً مهماً في تحديد حسابات ترمب تجاه الرياض.
لقد كان من الأحرى بواشنطن أن تبذل قصارى جهدها لإنجاح الحكومة العراقية. فكل ما فعلته إدارة ترمب هو أنها منحت العراق مهلة 45 يوماً على مضض لإيقاف وارداتها من الغاز الطبيعي الإيراني (في حين مُنحت دول أخرى مهلة 180 يوماً). واستنفدت الحكومة العراقية وقتاً ثميناً وأنفقت الكثير من المال السياسي في مواجهة خيار الخضوع للعقوبات الأميركية، أو فقدان مصدر الطاقة الذي يغذي نحو ثلث استهلاك العراق من الكهرباء. وكان يمكن مناقشة المقايضات آنفة الذكر في إطار الرؤى السياسية وتقييم المخاطر. قد لا يوافق المختصون الجادون، لكن لم تعد هذه هي القضية الأهم. فترمب، في إعلانه الأخير سحب القوات الأميركية من سوريا وأفغانستان اتخذ خطوات تتعارض كلياً مع أهدافه التي أعلن عنها تجاه إيران، في الوقت الذي لن يحقق فيه مكاسب واضحة في غيرها من المناطق.
أولاً، إن الانسحاب الأميركي من سوريا من شأنه أن يزيل القيد القوي الذي يحدّ من النشاطات الإيرانية في المنطقة، بل منح إيران فرصاً جديدة لتثبيت تأثيرها في الكثير من دول المنطقة. ورغم ضآلة حجمه، فقد ساعد الوجود الأميركي في سوريا في الحد من أنشطة إيران و«حزب الله»، وفي الحد من قدرات إيران على بناء جسر كبير يربط إيران بالبحر المتوسط؛ مما حدّ من التدخلات الإيرانية في المنطقة. فبرحيل الولايات المتحدة عن سوريا ستتمكن إيران الآن من المنافسة على الأراضي التي يسيطر عليها شركاء الولايات المتحدة في الوقت الحالي، وسيتمكن «حزب الله» من تثبيت أقدامه بالقرب من إسرائيل.
ثانياً، من شأن الانسحاب الأميركي أن يجعل من تحقيق أهداف الإدارة الأميركية المعلنة في الوصول إلى اتفاق أقوى وأشمل مع طهران أمراً لا يمكن تصوره. فقد كان دفع إيران لتنفيذ بعضٍ من مطالب وزير الخارجية مايكل بومبيو الاثني عشر، ومنها سحب جميع القوات الإيرانية من سوريا، أمراً عسيراً، لكن الدبلوماسيين الأميركيين سيواجهون التحدي المتمثل في دفع إيران إلى تقديم تنازلات في مواقف تراجع فيها النفوذ الأميركي نتيجة لسحب القوات الأميركية.
إن النفوذ الأميركي في المنطقة ربما سيضعف، وفي الوقت نفسه سيقوى وضع إيران بسبب التبعات المحتملة في أفغانستان. ففي أي مفاوضات قادمة مع «طالبان»، سيتمثل النفوذ الأعظم للولايات المتحدة في قواتها الموجودة هناك، في حين تركز «طالبان» على دفع الولايات المتحدة إلى سحب قواتها من هناك. وها قد بدأ الرئيس الأميركي ينفذ مطلب «طالبان» الأكبر حتى قبل بداية أي مفاوضات حقيقة. ولذلك؛ فإن العودة إلى الحرب الأهلية ليس بالاحتمال المستبعد. ورغم أن إيران لن ترحب بفوضى كتلك، فإنها ستهلل فرحاً برحيل القوات الأميركية من حدودها الشرقية، بعدما تذمرت طويلاً من التطويق الذي عانت منه عقب اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول).
لإيران أسبابها الكثيرة التي تدفعها للدخول في حوار. ولن يكون لدى إيران ما تخسره حال أرادت تجربة تلك الاحتمالية، وربما فازت خلال تلك المساعي بمكافأة رفع العقوبات المفروضة عليها.
إن لتراجيديا الانسحاب الذي أعلنه ترمب تبعات تتخطى حدود الاستراتيجية الأميركية تجاه إيران، حيث تمتد لتؤثر على أمن حلفاء الولايات المتحدة وشركائها في أوروبا وفي الشرق الأوسط، وعلى حياة ملايين البشر على الأرض، وعلى الوضع الأميركي عالمياً. فماذا عسانا أن نفعل لتخفيف تعبات كارثة كتلك؟ يبدو أن الخطوط العريضة للانسحاب الأميركي غير قابلة للنقاش، وإلا لما كان وزير الدفاع جيمس ماتيس، وبريت ماك غريك، المبعوث الرئاسي الخاص لترمب لدى التحالف العالمي المناهض لتنظيم داعش، قد تقدما باستقالتهما لو أن الانسحاب أمر قابل للتفاوض. ورغم ذلك، هناك فرصة لتقليل تبعات استراتيجية رعناء كهذه خلال تنفيذ عملية الانسحاب.
على سبيل المثال، يمكن للقائمين على تخفيض تعداد القوات في أفغانستان وسوريا تقليص القوات على الأرض، في حين تستمر أميركا في تعزيز قواتها الجوية لدعم قوات حلفائنا في سوريا وأفغانستان، وأيضاً إشراك قوات دول أخرى مثل المملكة المتحدة وفرنسا.
يمكن رسم جدول لسحب القوات على مراحل متباعدة، ومن المهم خلال مرحلة الانسحاب أن تحرص الولايات المتحدة على تأمين تنفيذ الاتفاقيات مع دول مثل تركيا؛ لضمان مشاركتهم في قتال فلول «داعش»، وألا تغير تلك الدول من أولوياتها في المرحلة المقبلة بصورة كاملة.
في النهاية، على الولايات المتحدة أن تحدد علاقتها مع بغداد، وأن تؤكد على الإبقاء على قوة أميركية هناك لأمد أطول، وإن كان من الصعب إقناع بغداد بأن ترمب لن يستيقظ يوماً ليقرر سحب قواته من العراق. فالجهود المبذولة يجب أن تسير في اتجاه تعزيز الوجود الأميركي هناك باعتباره موطئ القدم الأخير في المنطقة، حيث لا تزال هزيمة «داعش» غير مؤكدة، ولا يزال تحقيق الاستقرار هدفاً على المدى البعيد.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»