سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

حق العقَّاد علينا

أرشيفنا الأدبي لا يزال في حاجة ماسة لمن يبحث في خباياه. فقد نشرت جريدة «الشروق» المصرية مقالين غير معروفين لعباس محمود العقاد، ينيران القارئ حول موقفه من الفن التشكيلي، تحديداً، أشرف عليه الزميل والصديق سيد محمود. وقبلها بأشهر كان محمود قد أعد ملفاً مثيراً في «الأهرام العربي» عن فترة إقامة محمود درويش في القاهرة، بين عامي 1971 و1973، وهي على عكس مرحلته البيروتية، لم تعرف بالقدر الكافي. ومع نهاية هذه السنة قررت عائلة نجيب محفوظ الإفراج عن مجموعة قصصية غير منشورة، حملت اسم «همس النجوم» التي يفصل بينها وبين مجموعته الأولى «همس الجنون» أكثر من سبعين عاماً.
هذه الكشوف هي من أهم ما يمكن أن يحرك المياه الراكدة في الحياة الأدبية، التي بدأت تصيبها عدوى الاستكانة والخنوع. وقبل أشهر تبين أن ثمة 3 لوحات لجبران خليل جبران سيكشف عنها في «دار بونهامز» للمزادات، للمرة الأولى بعد 87 سنة على وفاته. وأكثر من ذلك أن كثيراً من لوحات هذا الأديب والرسام، لا تزال مجهولة، بسبب أنها ملكيات خاصة يتحفظ عليها أصحابها؛ لكنها قد تظهر في أي لحظة.
والأدباء في الأمم التي تعنى بتراثها تعاد قراءتهم، من خلال مكتشفات يعود إليها الباحثون، كما فعل علاء عبد الحميد في ملف العقاد، مهتماً بناحية واحدة من كتابات هذا الأديب الموسوعي، الذي ترك لنا ما يقارب مائة مؤلَّف، مركزاً فقط على رأيه في المدارس الحديثة في الرسم، في الثلث الأول من القرن العشرين.
ومن يزور أسوان التي ولد ونشأ فيها العقاد، يعرف أن الرجل حاضر في ضمير الأهالي، بقامته الشاهقة التي تنتصب تمثالاً مهاباً عند مدخل المدينة. لكنك حين تزور المركز الذي يحمل اسمه، تتجول في مكتبته، ومن ثم الغرفة التي خصصت لمقتنياته، وسبق لك أن شاهدتها في صوره التي التقطها في بيته، تشعر برهبة شديدة، ورغبة في أن تجلس في هذا المكان، وألا تغادره أبداً.
لم يُكتب للعقاد أن يؤلف بالإنجليزية ويعيش في أميركا، ويصبح عالمياً، وتدر كتبه الأموال، وينعم بمتحف كالذي أقيم لجبران في بلدته بشري. العقاد لم يحصل على غير الابتدائية، وتعلم الإنجليزية بفضل عناده وإصراره، ومن أفواه السياح الذين يزورون مدينته. كدح، هو ابن الأسرة الرقيقة الحال، في مصنع للحرير، ثم موظفاً في السكة الحديد، وديوان الأوقاف. لكن أنفته لم تسمح له بالاستمرار في الوظيفة التي اعتبرها رقّاً واستعباداً. أنفة وكبر العقاد اللذان كانا يبدوان جلفة وغلظة، صارا مما نشتاقه لكثرة الليونة والخنوع.
في مركز العقاد، لا شيء من الدلال الذي منح لفيكتور هوغو في متحفه الباريسي، أو بلزاك في بيته؛ حيث تحفظ أغراضه من لمس الزوار أو فعل الزمن. في ضيافة العقاد المقتنيات كلها في متناولك، بمقدورك أن تجلس على سريره، أن تمسك الـ«روب دو شامبر» بمربعاته البنية الذي رأيته يلبسه في مقابلاته التلفزيونية، أن تجرب «البيريه» الذي كان يعتمره. لا شيء يحمي سترته (جاكيتته) المعلقة على المشجب وكأنه قلعها للتو، أو مجموعة «كرفاتاته» الموجودة إلى جانبها، وحتى الحزام البني الذي كان يستخدمه. مقتنيات كثيرة أخرى للعقاد، غير لوحاته ومكتبه وسريره، وهذه المكتبة الصغيرة فقدت في مكان ما. محال ألا يكون قد اقتنى غير هذه الكتب الإنجليزية، وهو يؤلف عبقرياته و«المرأة في القرآن»، أو «الإنسان في القرآن»، أو يكتب منازلاته ضد خصومه الكثر.
لا بد أن زواراً كثراً على استعداد لأن يبقوا يوماً إضافياً في أسوان، يقضونه بصحبة العقاد الذي تنظم له احتفالية سنوية هناك؛ لكن ترتيب متحف محترف، يجمع أغراضه، من دون أن تمتد إليها أيدي الفضوليين، ومقتنصي الفرص، لا يزال أمراً بحاجة إلى جهد.
العقاد في تلك المدينة السياحية، يمكن أن يتحول إلى معلم، قد يبدو للبعض أهم من الآثار النوبية أو ضريح الآغا خان. ثمة من يقوم برحلة تمتد إلى 3 ساعات من بيروت إلى بشري لزيارة متحف جبران، بينما يمر غالبية السائحين في أسوان دون أن يعرض عليهم التعرف على عبقري المدينة، تماماً كما يمر السياح في لبنان ولا يعرفون بوجود بيت لميخائيل نعيمة، أو متحف لأمين الريحاني، على أهميته. فالأصل أن يكون الأديب جزءاً من الذخائر المعترف بها كقيمة وطنية، وهو ما نفتقده في بلادنا.
وبالعودة إلى مقالتَي العقاد المكتشفتين، فهما تُظهران لمرة جديدة كم كان الرجل محافظاً؛ لكنه في الوقت نفسه، صاحب وعي عميق بقدرة الأعمال التشكيلية، على قولبة ضمير الناس وذائقتهم الجمالية، وهويتهم المستقبلية. وبقدر ما يبدو العقاد كلاسيكياً، تقليدياً، لا بل ورجعياً، نشعر كم كان وطنياً، حريصاً على شعبه، حذراً مما يتعرض له في تلك الفترة من هجمات استعمارية تتخطى السياسة إلى الفكر والتكوين الذهني. قد يكون الرجل من ذاك التيار الذي هُزم، لصالح أوروبا متوحشة لم تبقِ ولم تذر. كان يومها متشدداً ضد التيارات الحداثية، لا يريد للبحر، في اللوحات، إلا أن يكون أزرق، وللشجرة ألا تعطَى غير لونها. ووصف من يجتهدون في اختيار الألوان الغريبة، ويدخلون التغييرات الجريئة، بأصحاب الـ«طبائع المريضة» والـ«حركات المضللة». متشدد ربما، خائف على الهوية لدرجة الجنوح. لكن حق العقاد علينا أن نعيد اكتشافه على ضوء ما وصلنا إليه، عبر تجربة مغايرة عن التي أوصى بها، لا بل على نقيضها، لنرى أين أخطأ، ولماذا كان قاطعاً في رأيه حد الهجوم الشرس على من يخالفه الرأي. العقَّاد هامة أدبية، ومهما كان خلافنا معه يبقى الإصغاء إليه واجباً أدبياً.