ليونيل لورانت
كاتب من خدمة «بلومبيرغ»
TT

«بريكست» والدخول على خط الهجرة

هل يمكن التخلي عن 40 مليار جنيه إسترليني من الثروة القومية للحد من الهجرة؟
أصبح القضاء على الهجرة تماماً هو الكيفية التي تترجم بها تيريزا ماي وعودها لحملة «بريكست» بـ«استعادة السيطرة». ونتيجة لذلك، استبعدت رئيسة الوزراء البريطانية تماماً أحد البدائل الأكثر معقولية لصفقة مغادرة الاتحاد الأوروبي الخاصة بها: وهي فكرة «نرويج بلس»، التي من شأنها أن تسمح بالوجود البريطاني ضمن السوق الأوروبية الموحدة وإجبارها على قبول حرية الحركة من بقية الدول الأخرى في الكتلة الأوروبية.
في واقع الأمر أن السيطرة على الحدود البريطانية أكثر الخطوط الحمراء الأعمق رسوخاً لدى السيدة ماي ضمن مفاوضات «بريكست». ورغم التصويت، فإنها ظلت من أشد المناصرين لوعود حزب المحافظين الحاكم بخفض معدل الهجرة الصافي سنوياً إلى عشرات الآلاف فقط، وذلك خلال شغلها منصب وزيرة الداخلية البريطانية سابقاً. وقال إيفان روجرز، سفير المملكة المتحدة السابق لدى الاتحاد الأوروبي: «يعلم الاتحاد الأوروبي بأسره أن النقطة التي وصلنا إليها الآن مستمدة من إعلاء القيود على حرية حركة الناس فوق الأهداف الأخرى كافة المتفاوض بشأنها».
ولكن رغم أحقية موقف السيدة ماي فيما يتعلق بملف الهجرة لأنه من القوى المحركة للتصويت على مغادرة الاتحاد الأوروبي، فإنه ينبغي لها ملاحظة أن الرأي العام البريطاني فيما يتعلق بهذه القضية يبدو في حالة تراجع. وكما يشير السيد روجرز، فإنه يمكن النظر إلى صفقة المغادرة لدى السيدة ماي على أنها محاولة لإنهاء حرية الحركة من الاتحاد الأوروبي بأي ثمن تقريباً؛ بما في ذلك الاقتصاد الهش، واستمداد قواعد العمل من بيروقراطية بروكسل، واستيعاب طلبات الضمانات بشأن الحدود الآيرلندية. وربما لم تعد السيدة تيريزا على القدر نفسه من التناغم التام مع جمهورها الناخب.
ويعتقد الشعب البريطاني على نحو متزايد أنه يجب على بريطانيا منح الأولوية للبقاء ضمن السوق الأوروبية الموحدة على إنهاء حرية الحركة بين بلدان الاتحاد، وفق آخر استطلاعات الرأي التي جرت بهذا الشأن. وتتسق هذه النتيجة مع نتائج استطلاعات الرأي الأخرى التي تضع المخاوف بشأن الاقتصاد والخدمات العامة فوق ملف الهجرة. ولا تزال أرقام النتائج متقاربة بعض الشيء، غير أن التوجه بات واضحاً وجلياً عن ذي قبل. وفي أوائل عام 2017، كان الفارق بنسبة 40 - 30 لصالح منح الأولوية لإنهاء حرية الحركة بين بلدان الاتحاد. وفي الآونة الأخيرة، تغير ذلك الفارق إلى 40 - 35 لصالح الاتجاه الآخر.
ما الذي يعنيه ذلك لـ«بريكست»؟
تتساءل استطلاعات الرأي العادية عن الأولوية الطبيعية لبريطانيا، وما إذا كانت قد أظهرت تحولاً واضحاً في المواقف منذ عام 2017. (المصدر: «أوبينيوم»).
ما الذي تعتقده المملكة المتحدة؟
لا يعني شيء من ذلك أن الشعب البريطاني صار متفائلاً بشأن السيطرة على ملف الهجرة. ولكن يبدو أن هناك قلقاً متزايداً بشأن ما إذا كان الأمر يستحق تكلفة مغادرة السوق الأوروبية الموحدة. وتكلفة مغادرة الاتحاد الأوروبي باتت ظاهرة للجميع. ويعتقد خبراء الاقتصاد في «يو بي إس» أن مستوى الاقتصاد البريطاني أصبح أقل بنسبة 2.1 نقطة مئوية مما كان عليه الأمر في غياب التصويت على المغادرة، مما يساوي نحو 40 مليار جنيه إسترليني (أو 50.4 مليار دولار) مفقودة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
وفي الأثناء ذاتها، شهدنا كذلك انخفاضاً في صافي الهجرة منذ التصويت على المغادرة؛ حيث باتت العمالة من الاتحاد الأوروبي تتجنب التوجه إلى المملكة المتحدة. وقد هبط المعدل السنوي من نحو 336 ألف عامل في نهاية يونيو (حزيران) عام 2016 إلى نحو 273 ألف عامل في نهاية يونيو من العام الحالي؛ أي بانخفاض بمقدار 63 ألف عامل.
وقد هبط صافي معدل الهجرة من الاتحاد الأوروبي إلى المملكة المتحدة بصورة حادة منذ الاستفتاء على «بريكست». (المصدر: مكتب الإحصاء الوطني بالمملكة المتحدة).
وإذا أخذنا مبلغ 40 مليار جنيه إسترليني، وفق تقديرات خبراء الاقتصاد في «يو بي إس» على مدار العامين الماضيين، وانقسم على عدد المهاجرين المتراجع، فسوف تكون المحصلة 635 ألف جنيه إسترليني. والآن، لا يشير من أحد إلى أن هذه هي التكلفة المباشرة لفقدان كل هذا العدد من المهاجرين؛ إذ يأتي أغلب الناتج المفقود منذ التصويت على المغادرة من عوامل أخرى مثل مخاوف المستهلكين، والاستثمار المتراجع، وضعف الجنيه الإسترليني. ولكنه لا يزال يثير مسألة ما إذا كان الأمر يستحق هذه التكلفة المتكبدة مقابل «استعادة السيطرة» الوطنية على الحدود.
وبالنظر إلى المستقبل، تشير توقعات البنك المركزي البريطاني إلى أن خطة السيدة ماي لـ«بريكست» سوف تقلل صافي الهجرة السنوية إلى نحو 100 ألف عامل بحلول عام 2021، في حين أن تكلفة الناتج المحلي الإجمالي على المدى البعيد بالنسبة إلى اتجاهات ما قبل عام 2016، سوف تكون بين واحد و3 في المائة؛ وفق أكثر السيناريوهات المتوقعة تفاؤلاً. وتشير هذه الأرقام إلى تكلفة بمقدار نحو 40 مليار جنيه إسترليني في غضون فترة تمتد من 6 إلى 7 سنوات، للسياسة التي توفر المهاجرين بمعدل سنوي يقل بنحو 236 ألف عامل، مما يساوي 169 ألف جنيه إسترليني لكل عامل غير وافد على البلاد. وهو الرقم الأقل من الرقم السابق، ولكنه لا يزال يشكل تساؤلاً مهماً.
وبالنسبة إلى الاتجاهات المسجلة قبل الاستفتاء، فإن الشراكة مع الاتحاد الأوروبي لما بعد «بريكست» من شأنها إلحاق الضرر بالناتج المحلي الإجمالي في المملكة المتحدة. (المصدر: سيناريوهات «بنك أوف إنغلاند»).
ربما تحاول السيدة ماي إخبار المملكة المتحدة بأنها يمكنها السيطرة على ملف الهجرة، أو يمكنها الحصول على المنافع الاقتصادية للسوق الأوروبية الموحدة. ولا يمكن الحصول على الأمرين معاً. وهي محقة في ذلك، فلا مجال لخيالات بوريس جونسون بأخذ الكعكة كاملة والاستمتاع بها هنا. ولكن إذا تعلقت صفقة السيدة ماي بشأن «حرية الحركة» فحسب وفق أي ثمن كان، فإن الشعب البريطاني لا بد من أن يعرف هذا الثمن على وجه التحديد.

- بالاتفاق مع «بلومبيرغ»