عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

امتطاء جوادين في وقت واحد

رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي أدارت العملية السياسية لإقناع مجلس العموم بالموافقة على مشروع اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي (وصياغته) كمن دخل السباق ممتطياً جوادين فسقط بينهما عند أول قفزة.
جواد الأغلبية التي صوتت بالخروج من الاتحاد الأوروبي، وجواد الأقلية التي صوتت بالبقاء فيه في استفتاء 2016.
وضعت المدام ماي نفسها في مأزق حتى قبل القمة الطارئة للمجلس الأوروبي (الزعماء التنفيذيين للدول الأعضاء الثمانية والعشرين، ورئيسه دونالد توسك) وعادت منها أول من أمس «بخفي حنين» بتراجع زعماء الأوتوقراطية الأوروبية مثل توسك، وجون كلود يونكر، وميشيل بارنيه، عن وعد إضافة الملاحق التوضيحية القانونية لاتفاقية خروج المملكة المتحدة التي طلبها مجلس العموم الأسبوع الماضي.
موقف نواب المجلس أدى بالقيادة البرلمانية لحزب المحافظين إلى سحب مشروع اتفاق الخروج من جدول أعمال المجلس قبل التصويت عليه بيوم واحد، بعد اقتناع المدام ماي باستحالة موافقة النواب عليه، وفضلت العودة لبروكسل لإدخال تعديلات على الاتفاقية. واستفز التلاعب بجدول الأعمال نحو ثلث نواب المحافظين فقدموا طلبات سحب الثقة منه، مما أدى إلى تصويت داخلي في الحزب اجتازته الزعيمة ماي، ولكن بقي 117 عضواً (من ضمن 315) لا يثقون بها.
لست وحدي أو حتى بقية السبعة عشر مليوناً وأربعمائة ألف ممن صوتوا بالخروج من الاتحاد الأوروبي من أشاروا إلى فخ نصبه الاتحاد الأوروبي ليحول جزءاً من المملكة المتحدة (آيرلندا الشمالية) إلى «مستعمرة» تحكمها بروكسل، بل أيضاً الـ48 في المائة الذين صوتوا في 2016 بالبقاء في الاتحاد.
البقائيون والخروجيون يرون «مسمار جحا» وضعه المفاوض الأوروبي في شكل حدود المملكة المتحدة، من شمال آيرلندا، مع جمهورية جنوب آيرلندا، العضو في الاتحاد الأوروبي. لهذه الحدود تاريخ ثلاثة عقود (1968 - 1998)؛ صراع دموي ضحاياه 3600، واتفاق «الجمعة العظيمة» قبل عشرين عاماً أبقى الحدود مفتوحة بين الآيرلندتين ضمن حرية حركة التجارة والمواطنين بين الدول الأعضاء وفي الاتحاد الأوروبي وفق «اتفاقية ماستريخت» لعام 1995.
إغلاق الحدود بين الآيرلندتين قد يستفز الحركة الجمهورية ويعود «الجيش الجمهوري الآيرلندي» للعنف، وهو مبرر البقائيين لإبقاء الحدود مفتوحة، وتبقى آيرلندا الشمالية جمركياً تحت النظام التجاري للاتحاد الأوروبي؛ أي تحقيق عملي للحلم الجمهوري الآيرلندي بضم مقاطعات الشمال وهي، منذ استقلال آيرلندا الجنوبية (1922)، ضمن المملكة المتحدة (آيرلندا الشمالية وبريطانيا الكبرى أو العظمى: أسكوتلندا، وإمارة ويلز، وإنجلترا).
نواب آيرلندا الشمالية (أغلبيتها بروتستانت) العشرة يرفضون وضعاً تكون فيه بلادهم تابعة واقعياً لآيرلندا الجنوبية (الكاثوليكية) بينما تظل جزءاً من المملكة المتحدة دستورياً فقط.
الاتفاقية ضمت فقرة «المحطة الخلفية» في حالة اندلاع أزمة، تنسحب القوانين التجارية للاتحاد الأوروبي على بريطانيا الكبرى نفسها «مؤقتاً».
أي يصبح الخروج من الاتحاد الأوروبي اسماً فقط وتخضع عملياً لقوانين بروكسل، دون أن يكون للبلاد تمثيل في المفوضية أو البرلمان الأوروبي.
ما طلبته المملكة المتحدة من بروكسل «تعريف الفترة المؤقتة بحد أقصى عند تفعيل بند المحطة الخلفية؟ ولماذا يظل قرار إنهائها بيد الاتحاد الأوروبي».
الخروجيون يرون إدخال الحدود الآيرلندية في هذه المرحلة كمسمار جحا، لأن للاتحاد الأوروبي حدوداً مفتوحة مع بلدان غير أعضاء كالنرويج، وسويسرا، وليخنشتاين.
المسؤولون في الاتحاد الأوروبي لا يجيبون عن سؤال راوغت رئيسة الوزراء ماي، النواب واللجنة البرلمانية المسؤولة، في الإجابة عنه: «من الذي سيضع الحدود الفعلية بين الآيرلندتين ويغلقهما؟ 310 أميال و275 نقطة عبور لم يستطع الجيش البريطاني إغلاقها أمام تهريب الأسلحة طوال 30 عاماً».
لم تجب ماي على سؤال كرره جوليان لويس، نائب للمحافظين لـ21 عاماً، ست مرات، «حكومتا لندن ودبلن لن تغلقا الحدود، فهل سترسل المفوضية الأوروبية جيشها الوهمي لإغلاقها؟».
أخطأت الزعيمة البريطانية الحسابات بقبول اتفاقية تنقص السيادة وتسمح بـ«مسمار جحا» أن يتحول إلى «سيف ديمقليس» تستغله بلدان كإسبانيا؛ تطالب باقتطاع أرض تابعة للتاج البريطاني قانونياً هي جبل طارق بـ«معاهدة إشبيلية» في 1729 وصدقت عليها «معاهدة باريس» في 1783.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يستغل «مسمار جحا»، بمقايضة عدم تفعيل «المحطة الخلفية» مقابل المزيد من الثروة السمكية من المياه البريطانية، للصيادين الفرنسيين، وكان فقدان الصيادين البريطانيين لمعظم ثروتهم السمكية لصيادي بلدان أوروبا بـ«معاهدة ماستريخت» أحد الدوافع الاقتصادية للتصويت بالخروج في 2016.
الـ«بي بي سي» والشبكات التلفزيونية تعطي انطباعاً مضللاً بأن المتاعب مع أوروبا تعود للانقسام داخل حزب المحافظين، بينما الواقع أنها على المستوى القومي؛ والتوجس من الطموحات الألمانية للسيطرة على أوروبا هو قلق دفين في الوجدان العام للشعب البريطاني.
زعامة حزب العمال المعارض تقاوم ضغوط التيار البليري بمشروع قرار باستفتاء ثان بأمل أن يغير الشعب رأيه ويفضل البقاء في الاتحاد. فمعظم الدوائر التي صوتت بالخروج كانت الطبقات العاملة التي تصوت لـ«العمال» وتدنت مستوياتها الاقتصادية، بسبب العمالة الرخيصة من شرق وجنوب أوروبا، وتوجيه الاستثمارات من الصناعة والإنتاج إلى مشروعات الترفيه التي تتمتع بها الطبقات الأوفر حظاً. وحتى انتهاء الجلسات، الجمعة قبل عطلة نهاية الأسبوع، توحد النواب على رفض الخطة المقدمة.
في بروكسل تلقت رئيسة الوزراء إهانات، وإن كانت اللغة مبطنة، من زعماء بروكسل (وصفها رئيس المفوضية جون كلود يونكر بـ«الضبابية»)، وتراجعوا عن بضعة تعديلات وضمانات قانونية كانت ستساعد الحكومة في مواجهة البرلمان، في جلسة غد (الاثنين) في البيان الوزاري الذي لا بد أن يقدمه أي وزير لمجلس العموم في أول جلسة فور عودته من مهمة في الخارج.
إهانات بروكسل أدت إلى تعاطف عام مع زعيمة البلاد عكسته تعليقات الصحافة الشعبية، أمس السبت، فهل تمتد هذه المشاعر الوطنية إلى مجلس العموم ويتعاطف عدد أكبر من النواب معها؟
أم تستغل المعارضة مأزق ماي وتتقدم بمشروع للتصويت، قبل عطلة أعياد الميلاد في نهاية الأسبوع، على مناقشة مشروع الخروج الذي كان قد تأجل.
الحكومة لا تستطيع من دون أصوات نواب آيرلندا الشمالية (وهم يرفضون الاتفاقية) كسب أي تصويت.
رفض البرلمان لمشروع القرار قد يتحول إلى ورقة بيد المدام ماي، تعود بها إلى بروكسل وتقول للسادة يونكر وتوسك وبارنيه: ممثلو الشعب بشقيه رفضوا المشروع بوضوح، بلا «ضبابية»، فماذا أنتم فاعلون؟