د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

فرنسا وزحف «السترات الصفر»

باريس تشتعل، و«فرنسا ماكرون» تتذوق طعم «ربيع ساركوزي العربي» من خلال «حركة السترات الصفر»، التي اختارت السترة الصفراء رمزاً لها، وهي حركة شعبيّة، ينسبها البعض إلى السيدة بريسيليا لودوسكي، عبر صفحات «فيسبوك»... كانت مطالبها اقتصادية في البداية للاعتراض على ارتفاع الأسعار، خصوصاً أسعار الوقود، وسياسة الحكومة الاقتصادية، ولكنها تحوّلت إلى مطالب سياسية بعد صدامات مع بوليه ماكرون، التي تتفاخر بنجاحها عقب كل سبت في قمع المعارضة، وكبت حرية التعبير، وشن حملة اعتقالات بين المتظاهرين؛ بل ووصفهم بالمخربين واللصوص، إذ استخدمت قوات الأمن الفرنسية وسائل قمع عديدة، فأمطرت المتظاهرين بسيل من الغازات المسيلة للدموع، وأعملت الهراوات على أجسادهم، وعملت على تفريق جموعهم بالعربات المصفحة، التي لا تختلف عن الدبابات سوى في غياب أنبوب المدفع. فالقوة المفرطة كانت حاضرة في جادة الشانزليزيه ومحيط قوس النصر، في ظل اعتقالات بالجملة، وغياب وصمت لإعلام ومنظمات وجمعيات التباكي على «حقوق» الإنسان وحرية التعبير، التي تباكت بدموع الغضب زمن «الربيع الفرنسي في بلاد العرب».
ماكرون الذي راهن عليه الفرنسيون بديلاً لليمين المتطرف، تحول من مصرفي بسيط إلى «رئيس الإليزيه»، ليتحول في بضعة أشهر إلى «رئيس الأغنياء» بتخفيف الضرائب على الثروات الكبرى، ويواجه أسوأ امتحان منذ انتخابه، بسبب محاباته الأغنياء على حساب الفقراء.
معالجة الأزمة من خلال معادلة العنف بالعنف المضاد، سيكون مردودها خطيراً جداً، فدماء ثورة 1789 لا تزال حاضرة في الذاكرة الفرنسية، وبين من يرتدون «السترات الصفر». كما أن استجابات ومعالجات ماكرون الخجولة والمترفعة والمتأخرة، لمطالب المتظاهرين، جلبت عليه كثيراً من المشكلات؛ فالمظاهرات لم تقف عند سقف المطالب المعيشية، بل تخطت الحواجز، بمطلب إقالة ماكرون، والحفلات الباريسية المترفة، كما يصفها الشارع الفرنسي الغاضب، الذي طالب حتى بحل الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان)، لفشلها في حلحلة الأزمة. استجابة الحكومة بتأجيل سياسة رفع الضرائب وأسعار الوقود، جاءت بعد أن خرجت الحركة عن إطار المطالب الاقتصادية إلى السياسية، في ظل غياب جسم ممثل لأصحاب «السترات الصفر»، وفي وجود محاولات لاختراقها والركوب على ظهرها، والظهور بمظهر الزعامة لها، والقدرة على استخدامها، وهذا سيجعل الحكومة الفرنسية في أزمة أخرى غير التي تنظر إليها من ثقب نوافذ الإليزيه.
أزمة ماكرون مع «السترات الصفر» تناولها قادة العالم بتعليقات متنوعة، بدءاً من دونالد ترمب، الذي علق على احتجاجات «السترات الصفر» بالقول: «إنهم يغنّون: نريد ترمب» وإن كان عبّر عن شعوره بالحزن على باريس بالقول: «يوم حزين وليلة حزينة للغاية في باريس، ربما حان الوقت لإنهاء (اتفاقية باريس) السخيفة والمكلفة للغاية، وإعادة الأموال إلى الناس على شكل خفض الضرائب». بينما إردوغان وجد فيها فرصة لتبرير اعتقالاته المشابهة للمناهضين لسياسته في بلاده، عادّاً أن فرنسا استخدمت القمع المفرط حيال أصحاب «السترات الصفر»، وأن شرطته كانت أكثر رأفة من شرطة ماكرون.
الاحتجاجات تحولت إلى كرة ثلج منحدرة من علٍ؛ دفعت برئيس الوزراء الفرنسي إدوار فيليب إلى الدعوة لإجراء حوار جديد مع ممثلي حركة «السترات الصفر»، متعهداً بمعالجة المطالب الاقتصادية.
وفي خضم حالة الأزمة التي تجتاح فرنسا، فإن «الجمعية الوطنية» تكتفي بالصمت، لتؤكد شيخوخة هذه المؤسسة الديمقراطية، كيف وهي في حالة مشابهة لم تسجل أي اعتراض على سياسة ساركوزي زمن «الربيع» العربي، ومكنت له عبر التشريع «الديمقراطي» استخدام القوات الفرنسية خارج الأراضي الفرنسية، لضرب قوات ليبية نظامية في دولة ذات سيادة... ضربات جوية وتسليح جماعات مجهولة الهوية، التي كان لها الدور الأبرز في إسقاط الدولة في ليبيا، وليس فقط النظام، ودعم جماعات على أنها جماعات «ثوار معتدلين» من خلال عرّاب «الربيع» العربي برنارد ليفي، وواقعها جماعات وتنظيمات إرهابية، كانت تحمل علناً شعار تنظيم «القاعدة» وأفكاره التدميرية، بل كانت بقيادة أمراء بارزين في التنظيم؛ منهم من كان سجيناً في غوانتانامو مثل سفيان بن قمو، والحصادي؟!