عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

حكم الشعب للشعب؟

أبسط تعريفات الديمقراطية «حكم الشعب للشعب». من الكلمتين الإغريقيتين «ديموس» الشعب، وكريتوس أي السلطة... السلطة للشعب.
النظام الديمقراطي، بالتمثيل النيابي كما اخترعه الإغريق نحو 508 ق.م، يفترض أن يكون مفهوماً عالمياً ليطابق ترجمة كلمتين ولدت الديمقراطية من زواجهما في كل اللغات.
ورغم ذلك لا أجد مقابلاً بالعربية لمسار الأعمال ومراكز في مجلسي العموم واللوردات، لغياب مثيلاتها في بلدان عربية مرت بتجارب برلمانية كمصر والعراق ولبنان.
الصعوبة نفسها تواجه ترجمتها للفرنسية أو الألمانية؛ فلا مقابل لعدد منها في الجمعية الوطنية في باريس، أو في البوندستاغ في برلين.
وبينما الديمقراطية البريطانية البرلمانية (منذ 1341)، هي الأقرب للتعريف اليوناني، «حكم الشعب للشعب»، فإن فرنسا مثلاً، نظام جمهوري، تنتخب رأس الدولة.
رأس الدولة يفترض أن يكون ممثلاً للأمة بكل فروعها، هو أيضاً الحاكم بأمره كسلطة تنفيذية، لا يخلو من النزعة الحزبية (كحال الولايات المتحدة)؛ أما ألمانيا ففيدرالية، وهي بنظام التمثيل النسبي، ومثل معظم بلدان أوروبا، تنتهي بحكومات ائتلافية.
الائتلافيات بطبيعتها تسير على حبل مشدود (خاصة إذا خضعت دستورياً للبرلمان) تمارس الحكم بتنازلات وحلول وسط، أشك في أنها كانت خيار ناخب له مطالب يريد تحقيقها.
هل هذا بالفعل هو «حكم الشعب للشعب»؟
وقد يطرح البعض جدلاً مشروعاً بأن النماذج أعلاه ممارسات متعددة للديمقراطية، أي إن التعريف الذي يعود إلى خمسة قرون قبل الميلاد يجب أن يتناوله العقل الإنساني، شأنه شأن أي فلسفات، أو عقائد، أو آيديولوجيات، بالتحليل والتطوير؛ فيجب إذن توسيع التعريف ليأخذ في الاعتبار ستة وعشرين قرناً من التطور؟
قاموس أوكسفورد يلتزم التعريف الكلاسيكي: «نظام حكم يمتلكه الشعب ويديره عبر ممثليه بالانتخاب». قاموس وبستر أضاف كلمات كـ«الأغلبية»، فقد أشار في تعريفه إلى أن «السلطة للشعب يمارسها عبر نظام تمثيل نيابي بانتخابات مباشرة دورية». وبلا انتخابات دورية، تتحول السلطة «المنتخبة» إلى أتوقراطية مستمرة.
قاموس كامبريدج يمزج التعريف الفلسفي بالقانوني: «الإيمان بالحرية والمساواة التامة بين الأفراد، هو العقيدة الأساسية للممارسة في نظام حكم السلطة فيه للشعب في شكل ممثليه بالانتخاب المباشر».
اجتهادات كلها إضافات للتعريف الأصلي، أي حكم الشعب للشعب.
فلنر إذن التطبيق الحديث في نموذجين معاصرين، فرنسا والمملكة المتحدة، وهما النظامان اللذان اقتبست معظم بلدان قراء «الشرق الأوسط» نظمها شبه البرلمانية وشبه الديمقراطية منهما في التحديثية التي ترتبت على نتائج الحملة الفرنسية على مصر والمشرق (1798 - 1801).
في فرنسا قرر الرئيس فرض ضرائب إضافية على الوقود والمحروقات رغم أن فرنسا هي في مجموعة ثاني أكبر ضرائب على الوقود في أوروبا بعد السويد وهولندا.
فكل جنيه يدفعه الفرنسي للوقود يذهب 64 قرشاً منه ضرائب و36 قرشاً هي ثمن الوقود نفسه وتكاليف تكريره وشحنه ونقله وتخزينه وبيعه.
في النظام الجمهوري، يمنح الدستور الحق لمؤسسة الرئاسة لإصدار القرارات مباشرة، وهو ما لا يسمح به النظام البرلماني. ففي الأخير من يصدرون القوانين يجتمعون بالناخب أسبوعياً، بينما في الأول يصدر القرار من قصر الرئاسة، ربما بعد تشاور الرئيس مع «خبراء» ومستشارين لم ينتخبهم الشعب. القرار الفرنسي أعقبته انتفاضة احتجاجات عنيفة ومعارك شوارع على الطراز الفرنسي المعتاد، اندلعت «الصديريات الصفراء» في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) ولا تزال مستمرة حتى كتابة هذه السطور.
فرنسا، هي ديمقراطية ناضجة بالتعريفات أعلاه.
قبل ثلاثة أيام عدلت رئاسة الجمهورية الفرنسية عن القرار استجابة لمطالب الشعب، وبدوره، لم يغير الشعب القرار بالأسلوب الديمقراطي، وإنما بالعنف ومقتل أربعة أشخاص وجرح العشرات وخسائر بالملايين.
أين البرلمان (الجمعية الوطنية)؟ لم يأتِ ذكر الجمعية الوطنية التي يفترض أن يجلس فيها ممثلو الشعب، إلا يوم الخميس عندما ألقى رئيس الوزراء (وهو بدوره معين من الرئاسة) خطاباً في مجلس السيناتورز (الشيوخ).
قرار صدر دون استشارة ممثلي الشعب، وألغي دون استشارتهم، استجابة لعنف، وليس عبر ممثلي الشعب في الجمعية الوطنية!
وماذا عن «أم البرلمانات» وأعرق الديمقراطيات؟
النظام البرلماني يختلف عن الجمهوري. والمملكة المتحدة (وبلدان الكومنولث التي ترأس الملكة الدول فيها ككندا، وأستراليا، ونيوزيلندا) نظامها فريد. فالبرلمان هو أعلى سلطة بتفويض من الشعب (ويعود إلى الشعب في حالة الاستفتاء).
الحكومة جزء من البرلمان، فجميع وزراء الحكومة ووزراء حكومة الظل نواب في مجلس العموم، وعند تعيين وزراء غير منتخبين تجدهم أعضاء في مجلس اللوردات.
الحكومة التنفيذية (وتسمى أيضا بالبنش الأمامي حيث يجلس الوزراء) هي جزء من المؤسسة التشريعية، أي البرلمان، لكن مجلس الوزراء أقلية (يتكون من 27 وزارة ومنصباً وزارياً، من مجموع 650 نائباً في مجلس العموم، ونواب الحكومة 315)، أي لا تزال السلطة للبرلمان. للوزراء، كنواب، مكاتب في البرلمان، بجانب مكاتبهم في الوزارات، وكلها في منطقة واحدة.
مثلا منصب «زعيم» أو «قائد» مجلس العموم leader of the house (وهو غير ما يعرفه العرب «برئيس البرلمان» الذي يعرف في العالم الانغلو ساكسوني بـ«سبيكر» أي صاحب الكلمة الأخيرة وهو حاليا جون بيركو، والمنصب محايد ومستقل عن الحكومة )، بينما قائد او زعيم البرلمان هو وزير في مجلس الوزراء (حاليا النائبة اندريا ليدسوم)، و«حامل السوط» chief whip أو مدير الانضباط الحزبي، وزير في مجلس الوزراء (حاليا النائب جوليان سميث)، وعملهما الدائم في البرلمان ولهما نظيران في حكومة الظل على مقاعد المعارضة.
يوم الثلاثاء صوت البرلمان، بما فيه بعض نواب الحكومة، بأن الحكومة تعامل المجلس بازدراء (وهي المرة الأولى منذ 70 عاماً)... وأجبرها، في خطوة غير مسبوقة، على نشر الاستشارة القانونية التي قدمها محامي عام الحكومة (حالياً النائب جيفري كوكس) للمجلس وراء الأبواب المغلقة، حول اتفاقية «البريكست» التي توصلت إليها حكومة تريزا ماي مع الاتحاد الأوروبي.
للوهلة الأولى أثبت البرلمان سيادته، كممثل لصاحب السلطة، وهو الشعب، على مقدرات الأمور.
هل يبتسم الشعب ارتياحاً إذن؟
الشعب صوت بالأغلبية (أكثر من 52٪ مقابل أقل من 48٪) للخروج من الاتحاد الأوروبي، ممثلوه في البرلمان، تريد أغلبيتهم (أكثر من 60٪ مقابل أقل من 40٪) البقاء في الاتحاد الأوروبي، والحكومة تنقصها عملياً سبعة أصوات، وعلى الأرجح سيمنع البرلمان تحقيق إرادة أغلبية الشعب.
إنها حقاً «حكم الشعب للشعب»!