محمد المخزنجي
كاتب مصري
TT

كل هذا الكربون فينا!

طالب الطب الذي يجلس دائماً في الصف الأخير من مدرج المحاضرات ناحية الباب الخلفي للخروج، نادراً ما يكمل الاستماع إلى محاضرة حتى نهايتها، ودائماً ما يتزود بكتاب يهرب إليه إذا اكتشف مقدمات الضجر فيما يلقيه المحاضر. وإذا لم يسعف المحاضر شغفه ولم يُلبِّ الكتاب أشواقه الدائمة إلى ما يدهش، يتسلل هارباً إلى الوجود الطلق تحت السماء المفتوحة. لكنه اليوم ينخطف إلى ملاحظة تعنُّ له في ثنايا محاضرة الكيمياء الحيوية، ويسعفه الكتاب بتأكيد موضوع انخطافه.
يُلاحظ من خلال تأمله لرموز المواد العضوية في الجسم البشري، أن عنصر الكربون هو العامل المشترك الأعظم في تكوين البروتينات، والدهون، والإنزيمات، والأحماض النووية... باختصار كل خلايا وأنسجة أجسامنا تتمركز في معمارها الحيوي ذرات الكربون، كلبنات بناء شاملة أساسية. فهل يعني ذلك أننا كائنات كربونية؟ ثم ينتبه إلى أن كل ما تتغذى به أجسامنا هي أطعمة قوامها الكربون أيضاً، سواء كانت حيوانية أو نباتية المصدر. ويبقيه اندهاشه نشوان ذاهلاً في مكانه حتى تنتهي المحاضرة، يُمعن في تطويف نظراته بما يظهر له من وجوه وكيانات جميلات بنات الدفعة من حوله: هل كل هذا الجمال الحي الرقيق الذكي اللطيف، قوامه الكربون؟
نعم! تجاوبه مراجع غير مقررة في منهج الدراسة، يعثر عليها بجهد وجد، وتضيف إلى دهشته دهشات: «بل إن كل أشكال الحياة في كوكب الأرض قوامها عنصر الكربون»، من البكتريا حتى الأشجار العظيمة، والأفيال الأفريقية الضخمة، والحيتان العملاقة، مروراً بالنسور والعصافير والفراشات والنمل، ونحن! كلها كائنات توصف حياتها بأنها «حياة قائمة على الكربون». ثم تقتحمه المعلومات والأرقام:
لو استبعدنا الماء من أجسام مُجمل الكائنات الحية في كوكبنا، لوجدنا أن 45 - 50 في المائة من كتلتها الجافة متشكلة من الكربون كأساس. وفيما يخص البشر، تشكل ستة عناصر نحو 99 في المائة من وزن الجسم، هي الأكسجين بنسبة 65.5 في المائة، والكربون 18.5 في المائة، والهيدروجين 9.5 في المائة، والنيتروجين 3.2 في المائة، يليها الكالسيوم 1.5 في المائة، والفسفور 1 في المائة. ويتبقى ما نسبته نحو 1 في المائة متشكلاً من البوتاسيوم والصوديوم والكلور والماغنسيوم والكبريت. يبدو الأكسجين هو العنصر السائد بنسبته الأكبر في أجسادنا؛ لكن ذراته لا تمكث طويلاً معنا؛ لأنها توجد متحدة مع الهيدروجين لتكوين الماء، والماء رغم ضخامة نسبته في أجسامنا، فإنه عابر يتغير دائماً، يدخل مع الطعام والشراب ويغادر بسبل شتى، بينما الكربون مقيم، وبعضه يظل معنا طوال حياتنا، كما في الخلايا العصبية بالمخ، وبعض خلايا عدسة العين. أما الكالسيوم الذي نخاله هائل الوجود في عظامنا وأسناننا وغيرها، فلا يبلغ العُشر من نسبة الكربون فينا!
كربون؟! يظل يتساءل طالب الطب مدهوشاً، وهو يخرج ليتأمل الحياة والأحياء في مدينته النهرية الجميلة، ويجد نظراته تتعلق بالأطفال مفرحي الوجود مع ذويهم في الطريق، والفتيات الفاتنات، والفتيان المفعمين بالانتعاش، واليافعين، والمسنين، وقطط وكلاب الشوارع، والعصافير على أسلاك الهاتف وأفاريز الشرفات والنوافذ، ونفسه! كل هذا من كربون؟ الكربون الذي يكوِّن القار والسخام وعتامة الأدخنة السامة والخانقة؟!
يتجه نحو نهر المدينة الذي طالما كانت نسائمه ومويجاته تهدهد حيرات روحه. يستأجر قارباً صغيراً من «فلايك الفسحة»، ويجذف حتى يتوسط النهر، فيتوقف. وإذا بنخيل الضفاف وأشجاره الوارفة تنضم إلى حيرة السؤال، فهي من الكربون أيضاً. يضج السؤال في صدره فيُطرِق لائذاً برقرقة الماء وتهادي مويجاته، وإذا بشمس الأصيل تنعكس شعاعات من ذهب وفضة على متن الرقرقة والتهادي. ويلمع في خاطره بريق الماس، فهو من الكربون أيضاً، تعرض لضغط هائل في أعماق قشرة الأرض، فتبلور متحولاً إلى حجر كريم، شفيف صلب، ينثر الضوء شرارات من أقواس قزح، تنطلق بهية من صفاء أعماقه، فيخطف البصر ويخلب الألباب.
«الماس فينا، كما السخام والقار والدخان»، يفكر طالب الطب مُعاوداً التجذيف بهمة ونشوة، ليخرج إلى ضفاف الناس والأشجار والأطيار، قبل المغيب.