سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

رحلة البحث عن «أم الصبي» في لبنان

من الواضح أن معنى القصة التي رواها الرئيس اللبناني ميشال عون، على مسمع من وفد زاره في قصر بعبدا، لم يصل إلى تيارات سياسية لبنانية بعينها، كانت حاضرة في خلفية ذهن الرئيس وهو يروي القصة للوفد الزائر، وتمنى لو يصل المعنى سريعاً وفي لحظته، إلى مرماه، لعل الحكومة التي تتعثر مفاوضات تشكيلها منذ سبعة أشهر، تخرج على الفور إلى النور!
كان الوفد يزور الرئيس عون في أجواء الاحتفال بالذكرى الخامسة والسبعين للاستقلال، وكان أعضاء ضمن الوفد يسألون ساكن قصر الرئاسة، عن السبب الذي يجعل انتخابات مجلس النواب تجري في مايو (أيار) من هذا العام، ثم تظل الحكومة التي من المفترض أن تتشكل في اليوم التالي لإعلان نتيجة انتخابات المجلس، تتحرك في مكانها على مدى الأشهر السبعة، فلا تتقدم، وإذا تقدمت فليس إلا لتعود من جديد إلى مربعها الأول... وهو أمر كما يعلم الذين يتابعون تفاصيل التشكيل منذ بداياته، جعل رئيس الوزراء المكلف، سعد الحريري، يقول في لحظة من لحظات الزهق مما يجري حوله من مناورات، إنه لو اعتذر عن عدم استكمال مشاورات التشكيل، فلن يعود إليها مرة أخرى ولن يقبل بالمهمة من جديد!
قالها الحريري في ساعة زهق، لعل القوى السياسية التي تعطل استكمال التشكيل تفيق وتعود إلى رشدها، ولكن يبدو أن ما قال به رغم جديته لا يكفي لجعلها تفيق، ولا يكفي لجعلها تقتنع بأن بقاء بلد في مثل ظروف لبنان دون اكتمال حكومة منتخبة، لسبعة أشهر كاملة، ليس من الصالح العام في شيء، كما أن عجز ساسة البلد عن التوافق حول حكومة جديدة كل هذه الفترة، ليس مما يليق بأهل السياسة فيه!
روى الرئيس عون لزائريه في القصر، قصة سليمان الحكيم الشهيرة، ولم يجد قصة أقوى منها في معناها، ليعبر بها عن واقع الحال السياسي في لبنان... فالقصة نحفظها جميعاً تقريباً... ولكن مَنْ قال إننا في لبنان، أو حتى في غير لبنان من بلاد العرب، نتدبر مثل هذه القصص عميقة المعنى التي نحفظها ونرددها، لنأخذ عنها ولو قليلاً مما تسوقه إلينا من المعاني الكبيرة... مَنْ ؟!... فما أكثر القصص المماثلة في تراثنا المحفوظ، وما أكثر دروسها الضائعة على طول الطريق!
لقد جاءت امرأتان تتنازعان صبياً بينهما، وكانت كل واحدة منهما تقول إنها أم الصبي، وكانت كل واحدة تقدم من الدلائل، ما تظن أنه سوف يكون مقنعاً لدى سليمان الحكيم ليأمر بالصبي لها هي دون الثانية، ولكنه كان قد تملكته الحيرة أمامهما، وكان إذا سمع من إحداهما أنها هي أم الصبي لا شك، سمع من الأخرى ما يقول بالشيء نفسه، حتى إنه وصل إلى مرحلة من الحيرة بين المرأتين، لم يعد معها يعرف ماذا عليه أن يفعل... فكلتاهما تقول وتشير، وكلتاهما تحشد ما يؤيد أحقيتها في أن تكون هي أم الصبي!... وقد بدا الرجل بينهما حائراً، بينما لسان حاله يردد بيت الشاعر القديم:
وكلٌ يدّعي وصلاً بليلى
وليلى لا تقر لهم بذاكا!
وهداه تفكيره إلى حيلة رآها حاسمة، فأمر المرأتين بالكف تماماً عن تقديم الحجج والبراهين المتبادلة، وصارحهما بما معناه أنه والحال كذلك، عاجز عن التوصل إلى مَنْ بالضبط منهما تكون أم الصبي، وأنه لذلك سوف يشقه نصفين ويعطي كل واحدة نصفاً، وأنه لا يجد أفضل من هذا الحل الذي يراه عادلاً!... فكلتاهما سوف تستريح، وهذا هو المطلوب... وما كاد يشرع فيما قال إنه سيفعله، بل ما كاد ينتهي من عبارته، حتى صرخت إحداهما ترفض الفكرة كلياً، وترجوه ألا يشرع في تنفيذها، ولم تكن ترجوه وفقط، ولكنها كانت تطلب في إلحاح أن يكون الصبي من حظ المرأة الثانية!
هنا... أدرك الحكيم بسرعة أن حيلته قد نجحت في الوصول لهدفها، وأن هذه المرأة الصارخة هي أم الصبي، لا الثانية أبدا، لا لشيء إلا لأن أي أم حقيقية تفضل بالتأكيد، أن يعيش ابنها سليماً مُعافى، بعيداً عن الأذى، حتى ولو كان في حضن امرأة غيرها... تفضل هذا له على أن يصيبه شر من أي نوع، فضلاً بالطبع عن أن يجري شق جسده إلى نصفين... نصف لها ونصف لامرأة تنازعها أمومته، ولا تعرف للأمومة معناها... فالأمومة أقوى دائماً لأنها غريزة تصاحب المرأة فلا تفارقها!
وفي وداع الوفد قال عون وهو يضغط على مخارج الحروف والكلمات، إنه بالقياس على هذه الحكاية القديمة المليئة بالإيحاءات، يبحث عن أم الصبي في لبنان ليعطيها البلد، لأنها ستكون دون جدال أمينة عليه، وستكون أحرص على سلامته، كما بدا من حرص الأم الحقيقية، لا المزيفة، في أصل الحكاية!
ولم يكن هناك ما هو أعجب من عدم وصول المعنى الذي أراده الرئيس، إلى الذين أراد لمعناه أن يصل إليهم، إلا الطريقة التي جرى بها استقبال روايته للحكاية، وإلا النقاش العلني الذي راح يدور حول أم الصبي المقصودة في الحالة اللبنانية، ومَنْ على وجه التحديد تكون!
لقد وجدنا أنفسنا بين قائل بأن لبنان في حاجة إلى سليمان الحكيم، أكثر من حاجته إلى أم الصبي، أو لعله في أشد الحاجة إليهما معاً، في الوقت ذاته، لأن غياب أحدهما هو غياب في حقيقته للآخر... ومَن قائل بأن المهم أن تضحي أم الصبي فعلاً من أجل لبنان، لأنه لا طرف عنده الاستعداد للتضحية من أجل البلد... وهكذا... وهكذا... إلى آخر الكلام الذي لن يزيد الذين ينتظرون تشكيل الحكومة سريعاً... إلا مزيداً من الانتظار والقلق!
ولم تكن هذه التفسيرات لما صدر عن الرئيس صحيحة كلها... فبعضها صحيح وفي محله، وبعضها ليس كذلك، لأن الجميع يعرفون أن الأطراف السياسية في لبنان ليست سواءً في موقفها من الحكومة، ويعرفون أن حزب الله تحديداً لو تخلى عن حكاية سنة 8 آذار، الذين يريد توزيرهم في الحكومة الجديدة، لخرجت حكومة الشيخ سعد إلى العلن بعد ساعة واحدة من تخلي الحزب عن هذا الشرط العجيب، الذي يبدو وكأن الهدف منه تعطيل التشكيل أكثر منه رغبة في توزير هذا الطرف أو ذاك!
والمعنى الأبعد وراء القصة المروية من الرئيس، ليس مجرد تحفيز طرف سياسي لا يريد أن يضحي، على أن يضحي، ولكنه في الأصل مدى استعداد الذين يعطلون تشكيل الحكومة، لتقديم الصالح العام لبلد بكامله، وكافة مواطنيه، على الصالح الخاص لتيار، أو لفئة، أو لجماعة سياسية... القصة هي مدى استعداد حزب الله، لتقديم صالح بلد على مصلحة حزب، فهو يعرف بينه وبين نفسه، وأمام الناس بالسواء، أن حكاية سنة 8 آذار التي يتمسك بها، هي العقبة الباقية في طريق الحكومة، وأن تمسكه بها قد يكون في صالحه كحزب... قد يكون... ولا أحد ينكر عليه العمل لصالحه، فهذه هي طبيعة عمل أي حزب سياسي... ولكن... إذا تعارض صالحه مع صالح الدولة، تقدم الصالح الثاني دون كلام، لأن هذا الصالح الثاني نفسه ينطوي في مضمونه على صالح الحزب، وعلى صالح كل حزب آخر، ما دام الانتماء للبنان هو السقف الذي لا سقف يعلوه!
كل المطلوب أن يلتفت الحزب إلى أن اكتمال تشكيل الحكومة في لبنان، يتقدم على وجود سنة 8 آذار في الحكومة نفسها، وأن لبنان لا بد أن يبقى بلداً واحداً لكل أبنائه، فلا يقبل القسمة على اثنين!