إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

يا أصحاب السعادة...

من هو الذي لا يطلب السعادة ويبحث عنها أو يحلم بها؟ بيننا من يتمناها. أتفرج على من يعيشها بالفعل وتسعدني رؤيته وهو يقبل كفّه باطناً وظاهراً. واستغرب ممن يستهلكها ويمضي متأففاً متذمراً طوال الوقت. هل يمتلكها، حقاً، أولئك الذين يحملون لقب «صاحب السعادة»؟ قد تبدو لعبة الألقاب واللياقات الزائدة مبالغة، لا سيما في موضوع السعادة. ويمكن للمرء منزوع الألقاب أن يلتمس سعادته في نظرة أو لحن أو كتاب أو ورقة خريف تحت شجرة.
اليوم صارت للسعادة نظريات ومدارس وفصول تدريبية. وهناك خبراء متخصصون في فكّ تعقيدات البطرانين والأخذ بأيديهم نحو استكشاف كهوف الفرح والسرور. ورغم شهاداتهم المعلنة فإن هؤلاء لا يختلفون عن قراء الكف وفتّاحي الفال وكتبة التعاويذ والأحجبة. والفرق أنهم لا يخطّونها بالفحم والرسوم الملغزة بل يرقنونها على الكومبيوتر ويرسلونها للزبائن على شاشات هواتفهم، ومعها الفاتورة. لذلك ليس غريباً أن يطلع علينا من يبشّر بطريقة جديدة تدعى «العلاج بالمواء». وهي ممارسة يؤكد أصحابها أنها كفيلة بتهدئة الخواطر وتطمين القلوب وبث السرور في نفوس الحزانى. وما على المكلوم سوى اقتناء هريرة، أي قطة، ومداعبتها وتمليس فروتها والاستماع إلى مواء الرضا الصادر عنها. هذا المواء الخافت، بالذات، هو البلسم الشافي من الكدر.
لا يقدّم أساتذة المواء خبراتهم بهذه البساطة. إنهم يغلفونها بالمصطلحات والاشتقاقات الأجنبية. ويقولون لـ«المريض» المُكتئب والحزين بأن مَوْمَوة القطط تساعد في إفراز السيروتونين. وهو، يا محفوظ السلامة، هورمون السعادة. ماذا عن زقزقة العصافير وثغاء الشاة وهديل الحمام وثرثرة الببغاوات؟ هل تحفّز الهورمونات أم تكبحها؟ المهم أن برنامجاً تلفزيونياً أخذ المشاهدين إلى صف في مدرسة فرنسية يجري فيه تطبيق فلسفة المواء. وبهذا عرفنا أن «الغونغونمون»، أي المَوْمَوة، دخلت مناهج المدارس في الدول المتقدمة ونحن في غفلة مما يجري في الدنيا، ننشغل بالقضايا السياسية الصغيرة وصراعات الحكومات والمعارضات والموالاتات، جمع الموالاة.
تعود الريادة إلى مدرسة خاصة تقع في جنوب فرنسا، أرادت لها مديرتها أن تكون مختلفة عن المدارس التقليدية وأن تتبع أساليب تربوية مبتكرة. ما المانع من أن تنضم القطة إلى كادر التدريس؟ وجاء في تقرير منشور عن التجربة أن المسح على ظهور الحيوانات الأليفة يخرج الطفل المستوحد من وحدته، ويطرد القلق عنه، ويهدئ من توتر الولد كثير الحركة. ليس هذا فحسب، بل يساهم العلاج بمواء القطط في التصدي للفشل الدراسي. يعني إذا كان الولد صفراً في جدول الضرب فلا تضربه بل هات للحمار قطة. أكتب هذا وأنا أدرك أن المزاح لا يليق في مواضيع مثل التعثر الدراسي. مساكين أولادنا. لكن تلك المديرة التي تطلب أقساطاً باهظة لمدرستها تستفزّ كل من يكره المتاجرة بالنوايا الطيبة ويشمّ من بعيد رائحة الاستغلال.
تكفي قراءة الإعلانات للإحاطة بالمنجم الذي وقع عليه بعض المعالجين النفسيين للإثراء الخُلّبي. وبينهم من يغري النساء بأن الإصغاء للمواء والتفاعل معه يطرّي البشرة ويحفظ الشباب ويقلل من عمق التجاعيد. أما فارس الميدان فهو ذاك الذي اخترع تطبيقاً على الهواتف الذكية ينقل للمشتركين ذبذبات مشابهة لتلك التي تصدر عن فراء القطط المستكينة للمداعبة. هو يُذبذب وأنت تدفع.