أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

حقائق المشهد السوري على هامش اجتماع آستانة

أربع حقائق يمكن رصدها في المشهد الراهن بالتزامن مع انعقاد الجولة الحادية عشرة من المباحثات، بين غالبية الأطراف المنخرطة في الصراع السوري، والتي تعقد مجدداً في عاصمة كازاخستان (آستانة).
الحقيقة الأولى، وضوح الدور الذي يلعبه «مسار آستانة» في إزاحة «مسار جنيف» التفاوضي الذي فشل في تحقيق أي تقدم يذكر، وصار يوحي، رغم مرور أعوام على إطلاقه، بأنه أشبه بمضيعة للوقت وملتقى للتنابذ حول أفكار لا سند لها وخطط يصعب تنفيذها، الأمر الذي يعني استمرار التعطيل والاستعصاء في التوصل إلى حل سياسي ينسجم مع أبسط تطلعات الشعب السوري.
ثمة فارق كبير بين مؤتمر دولي يضع حداً لصراع دموي متفاقم منذ سنوات في سوريا وفق بيان جنيف 2012 وبين اجتماع آستانة الذي يكتفي بتفويض رعاته بإدارة هذا الصراع وتوجيهه وفق مسارات تخدم مصالحهم المشتركة، والفارق كبير تالياً بين النقاط الست لبيان «جنيف 1» التي تتلاقى مع طموحات غالبية السوريين في التغيير السياسي، وبين خطوات جزئية لتخميد القتال يحدوها إنشاء ما سمي مناطق خفض التصعيد، وفرض تسويات ومصالحات على جماعات المعارضة لتسليم أسلحتها قبل تهجيرها قسرياً إلى الشمال السوري، ولا يغير هذه الحقيقة بل يؤكدها التفاف اجتماع آستانة العاشر في الماضي على فكرة قيام حكومة انتقالية تؤسس لتغيير سياسي جدي في البلاد، حين اكتفى بدعم لفظي لتشكيل اللجنة الدستورية وبوعد لمعالجة مسألة المعتقلين والمختفين قسرياً، ويؤكدها أيضاً منح الأولوية في الاجتماع الراهن لمستجدات إدلب التي باتت تتأرجح بين إعطاء فرصة أخيرة لتفعيل الإجراءات المطلوبة في «اتفاق سوتشي» بين موسكو وأنقرة لتطهير المدينة من الإرهاب الإسلاموي ممثلاً بـ«جبهة تحرير الشام»، وبين إطلاق دور النظام وإيران، كي يشنا حرباً ضروساً، تحت غطاء روسي، على الشمال السوري لإخضاعه بالقوة، بدأت نذرها منذ أيام، بقصف روسي عنيف لريف إدلب بذريعة استخدام المعارضة، سلاحاً كيماوياً، في ريف حلب!
الحقيقة الثانية، يصح القول إن التوافق الدولي والإقليمي على تكليف موسكو إدارة الصراع في سوريا، لا يعود فقط إلى رغبة جمعية بتشجيع قيادة الكرملين على تحجيم الوجود الإيراني في المشرق العربي أو لدورها المجرب في ضمان أمن إسرائيل، أو لاستثمار خبراتها وقدراتها الرادعة في تصفية الجماعات الإسلاموية المتطرفة، وإنما أساساً إلى المكتسبات العسكرية التي حققتها قواتها على الأرض طوال العامين الماضيين ومكنتها عملياً من لي ذراع الجميع وفرض تفردها بالقضية السورية، لكن تبقى هناك عوامل كثيرة تضعف هذه الحقيقة، منها استمرار دور طهران في إفشال أي مسعى نحو إيجاد حل سلمي للصراع السوري، وأوضحها خرق الضمانات التي قدمتها موسكو لمن قبلوا المصالحات والتسويات، مستقوية بنظام منتشٍ ببعض النتائج العسكرية التي تحققت مؤخراً، ومنها غموض مناورات أنقرة في إنهاء الوجود الإسلاموي «الجهادي» في الشمال ما دامت تستثمره في تحسين موقعها التفاوضي وفرص مواجهتها لهاجسها الكردي، ومنها تقدم الحضور الأميركي في شرق البلاد، مستنداً إلى قوات سوريا الديمقراطية ودورها العسكري ضد جيوب «داعش»، ربطاً بتمسك الدول الأوروبية باشتراط حصول تغيير سياسي في البلاد، قبل المساهمة في إعادة الإعمار.
الحقيقة الثالثة، غلبة دور الأطراف الخارجية في التحكم بالصراع السوري ومستوياته السياسية والعسكرية على حساب جميع أطرافه الداخلية، والحال، بعيداً عن الاستنتاجات المتسرعة لكلام من نوع أن المعارضة خسرت والنظام ربح، فإن الأخير فقد معظم إمكانياته ونفوذه وقراره، ولم يعد قادراً على ضمان استمرار حكمه وإدارة حربه من دون إمداد، وعلى كل المستويات، من حليفيه روسيا وإيران، فكيف الحال وهو ينوء اليوم تحت ثقل أزمة اقتصادية خانقة، وبدأت تلاحقه ملفات المحاسبة والعقاب على ما ارتكبه، ويئن تحت وطأة العجز عن معالجة مخلفات الحرب لدى قاعدته الاجتماعية، مستجدياً أبسط المساعدات لتخفيف ما أحدثته آلته القمعية من ضحايا وخراب.
وفي المقابل، تتكشف هشاشة كيانات المعارضة السياسية والعسكرية، إنْ بفعل شدة ارتهانها للدعم الإقليمي والدولي، وإنْ بسبب تشرذمها وصراعاتها البينية وفشلها في إدارة ما تبقى لها من مناطق نفوذ، لتبدو اليوم في أسوأ حالاتها، ضعيفة وعاجزة عن لعب أي دور سياسي فاعل، يزيد الطين بلة عماء التطرف الإسلاموي والنهج المستهتر بأرواح الناس لجبهة تحرير الشام التي لا تريد أن تقرأ توازنات القوى وما قد تفضي إليه في ظل قرارات دولية تصفها بإرهاب يستوجب اجتثاثه، ولا يهمها ما قد يحصل من دمار وضحايا في مدينة إدلب يرجح أن يكون شاملاً، وهنا، لن تفيدها مناوراتها المفضوحة لتغيير جلدها، إنْ بابتداع أسماء جديدة، من «النصرة» إلى «فتح الشام» إلى «تحرير الشام»، وإنْ بإقامة مجالس مدنية وتشكيل ما سمي حكومة إنقاذ، ودعوة الجميع للمشاركة فيها، ما دامت لم تتوانَ منذ سيطرتها على إدلب في 2015 عن سحق بقية الفصائل العسكرية المختلفة معها واغتيال الكوادر الوطنية السلمية، وآخرهم رائد فارس وحمود جنيد أهم ناشطين إعلاميين في كفر نبل.
الحقيقة الرابعة، يتراجع كل شيء في سوريا نحو الأسوأ، مؤسسات الدولة والنظام والمعارضة، الأمن وشروط الحياة، شكل الصراع وحدته، تماسك المجتمع والاحتقانات الأهلية والطائفية، الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، والأهم طريق الخلاص، وبالتالي لم تعد تصح قراءة المشهد السوري خارج نتائجه الإنسانية، وما أحدثه العنف المتمادي من مئات ألوف القتلى ومثلهم من المفقودين والمعتقلين، وأعداد تفوقهم من الجرحى والمشوهين، ثم أضعاف مضاعفة من الهاربين نزوحاً داخلياً أو لجوءاً إلى بلدان الجوار، وأسوأها إمعانه في تخريب حيوات السوريين واجتماعهم ومستقبلهم، والقضاء على كل ما أنجزوه منذ الاستقلال.
ثار الناس البسطاء على نظام لم يتوقعوا أبداً أن يكون جاحداً وعنيفاً بهذه الطريقة في الرد على مطالبهم البسيطة وأن يستبيح كل شيء قتلاً وتدميراً، من أجل الحفاظ على حكمه وامتيازاته، مثلما لم يتوقعوا هذا التنامي البغيض لتيارات إسلاموية متطرفة، اقتحمت بشعاراتها المشهد وفرضت أجندتها، وما ترتب على ذلك من إباحة الإقصاء والعنف ضد الآخر المختلف وتشويه مطالب السوريين وحقوقهم المشروعة في الحرية والكرامة.