مأمون فندي
أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورجتاون سابقاً، ويعمل الآن مديراً لمعهد لندن للدراسات الاستراتيجية. كتب في صحف عديدة منها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«فاينانشال تايمز» و«الغاردين» وبشكل منتظم في «كريستيان ساينس مونوتور»، و«الشرق الاوسط». له كتب عديدة بالإنجليزية والعربية آخرها كتاب «العمران والسياسية: نظرية في تفسير التخلف 2022».
TT

جحيم النوايا الحسنة

جحيم النوايا الحسنة: هل فشلت بالفعل الهيمنة الأميركية بعد الحرب الباردة كما يدعي مؤلف الكتاب ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد؟ كتاب زميلنا ستيف والت، الذي يعتبر من أهم رموز الواقعية السياسية الآن، هو كتاب سيظل مثيراً للجدل لفترة؛ لأسباب كثيرة أتمنى أن أستطيع تغطية الأساسي منها في هذا المقال.
وستيف والت ليس غريباً على إثارة الجدل الأكاديمي أو حتى الاجتماعي، خصوصاً بعد أزمة كتابه السابق الذي ألّفه مع زميلة جون مارشيمر، أستاذ السياسة بجامعة شيكاغو العريقة، عن تأثير اللوبي الإسرائيلي في السياسة الخارجية الأميركية.
جحيم النوايا السيئة؛ نخبة السياسة الخارجية وفشل الهيمنة الأميركية يعرض لفكرة فشل التوجه الليبرالي الأميركي لفرض الهيمنة العالمية، وأسباب فشل هذه الاستراتيجية. الهيمنة الليبرالية، كما يتناولها والت، هي ليست الليبرالية بمعنى نقيض المحافظة، لكنها الاستراتيجية التي تبنّت قيم العولمة والتجارة الحرة، نشر الديمقراطية وحكم القانون، ومعها حقوق الإنسان كقيم حاكمة للسياسة الخارجية الأميركية، قيم ربما يشكك فيها القارئ العربي، لكنها كانت جزءاً كبيراً بالفعل من منطلقات السياسة الخارجية في عهد رئاسة كل من بيل كلينتون، وجورج دبليو بوش وباراك أوباما، رغم اختلاف الحزبين القادمين منهما، أما ترمب فلا نعرف حتى الآن أين يقف، رغم أن المؤشرات الأولية لإدارته تقول إنه يفضّل المصلحة على القيم، أو ما سمّاه والت بسياسة التعاملات التجارية «transactional policy»، ومع ذلك يظل من السابق لأوانه أكاديمياً تبني حكم كامل على إدارة لم يمر عليها عامان، لكن والت يرى أن انتخاب ترمب رئيساً هو نتيجة لفشل نخب السياسة الخارجية الأميركية المنغلقة على نفسها.
يرى والت أن استخدام القوة الأميركية خارجياً في فرض الديمقراطية كقيمة، كان بمثابة كارثة على استراتيجية الهيمنة هذه، ويضرب أمثلة بالغزو الأميركي لكل من أفغانستان والعراق اللتين في كل منهما حاول جورج بوش تغيير النظام من أجل بناء نظام ديمقراطي يؤثر في محيطه، أو يصبح نموذجاً على أنها رموز وعناوين واضحة لفشل استراتيجية الهيمنة الليبرالية كأساس للسياسة الخارجية.
لم تكن العراق وأفغانستان وحدهما هما عناوين الفشل؛ فهناك الصومال في عهد كلينتون، واليمن في عهد أوباما وفشل الربيع العربي، كلها تؤكد فشل هذه الاستراتيجية. كما أنها استراتيجية حاولت أن تفتح الأسواق بتكلفة عالية، فحرب كل من العراق وأفغانستان كلّفتا أميركا ما يقرب من 6 تريليونات دولار، كما أن تلك التدخلات الخارجية هي التي أدت إلى انهيار الأسواق والأزمة المالية العالمية عام 2008. وتلك كانت كارثة أخرى على أميركا والعالم.
انغلاق نخب السياسة الخارجية الأميركية التي أصبحت شبه مجموعة أعماها الاعتقاد بصحة الاستراتيجية «cult»، وعدم قدرة هذه النخب على رؤية البدائل هي التي أدت إلى تلك الكوارث العالمية، وكذلك الكوارث الأميركية. ثم جاءت ظاهرة دونالد ترمب وسياسته التي تطالب الحلفاء بدفع ثمن النفقات العسكرية الأميركية؛ لأنها تحكي بلدانهم، وقد قال ترمب هذا صراحة في اجتماعات قادة حلف الناتو، وحتى في احتفالات مرور مائة علم على الحرب العالمية في باريس، وأيضاً قالها في سياق غير منطقي عن الشرق الأوسط «ادفعوا ثمن حمايتكم».
كتاب والت هو بمثابة هجوم عقلاني كاسح على جماعات لا شغل لها إلا أن تدفع أميركا للقيام بمهمات في أماكن بعيدة لمصلحة أناس آخرين، ربما هي ليست من مصلحة الولايات المتحدة الأميركية، تلك المجموعات التي سماها بن روود، نائب مستشار الأمن القومي في إدارة أوباما بالبلوب «blob»، أو الطحالب اللزجة في إشارة إلى المهتمين بالسياسة الخارجية الأميركية في واشنطن من أعضاء كونغرس ومؤسسات وجنرالات متقاعدين وصحافيين. كتاب والت هو هجوم غير مباشر على كل هؤلاء بصفتهم سبباً من أسباب تخبط السياسة الخارجية الأميركية، ربما بالحدة ذاتها التي انتقد فيها دور اللوبي الإسرائيلي في السياسة الخارجية الأميركية منذ أعوام.
كتاب جحيم النوايا الحسنة «The Hell of Good Intentions» جدير بالقراءة الجادة، ويجب ألا يُختصر على طريقتنا كما اختصرنا من قبل صامويل هنتينغتون في «صراع الحضارات». كوارثنا نحن في المقابل أسبابها أننا لا تقرا كتاباً من 400 صفحة ونفكر في أسسه، فقط نردد الكليشيهات أو العبارات الرنانة وهذا بلوبنا «our blob» أو تلك طحالبنا اللزجة التي لن تغرق تحت الماء أبداً، على قول عبد الحليم حافظ.