د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

لماذا تخسر القوى الحداثية في مجتمعاتنا؟

إنّ الحديث عن الخسارة يستبطن حديثاً عن الربح، أي أننا أمام معادلة تجمع بين طرفين؛ خاسر ورابح. وكي نكون أكثر وضوحاً ومباشرةً - لا بدّ منها أحياناً - فإن المقصود بالرابح هم الإسلاميون، وربحهم متأتٍّ في جزء وافر منه من الرصيد السلبي للقوى الموصوفة بالديمقراطية الحداثية.
وفي الحقيقة وبعيداً عن التعميم، فإن الفكرة التي نودّ التوقف عندها تظهر بوضوح أكبر في بلدان المغرب العربي بشكل خاص رغم عراقة فكرة الحداثة وتراكم مكاسبها.
وقبل محاولة تبيان الأسباب التي جعلت من تأثير القوى الحداثية متواضعاً في المجتمعات المغاربية رغم العناصر الإيجابية التي توفرت لها ولم تتوفر لخصمها الإسلام السياسي فإننا سنعتمد المثال التونسي.
طبعاً قد يرى الكثيرون من الحداثيين أن عنوان مقالنا ينطوي على هضمٍ لمكانة القوى التحديثية ودورها في التغيير الاجتماعي وفيه توصيف غير موضوعي وينكر جهودها. وكما يبدو لنا فإن الاعتراف بالخسارة والفشل شكل من أشكال النقد والمراجعة وحافز للربح مستقبلاً إذا ما تم الانتباه إلى الأخطاء والثغرات.
لقد رأينا في المثال التونسي كيف أن حركة النهضة تمكنت في السنوات الأخيرة ومنذ تاريخ الثورة التونسية من تثبيت نفسها في المشهد السياسي والمحافظة على موقعها رغم الهزات الداخلية والخارجية، وأقصد بذلك الانحسار الذي عرفته الأحزاب الإسلامية. وفي مقابل ذلك نجد أن الأحزاب الحداثية ظلت في حالة من الارتباك السياسي والتصدع القوي الذي كان يصبّ بطبيعة الحال لصالح حركة النهضة التونسية. والمشكلة التي تثير الاستغراب هو أن الجبهة التحديثية وجدت الدعم من الشعب ورجال الأعمال، حيث إنه تم تأسيس حركة نداء تونس التي وُصفت بأنها وُلدت كبيرة وبفضل إرادة النخب التحديثية وقطاعات واسعة من الشعب لإنجاحها وتكوين جبهة سياسية حقيقية في وجه الإسلاميين، فازت حركة نداء تونس في الانتخابات التشريعية والرئاسية عام 2014 وتفوقت من حيث التصويت خصوصاً أن ناقوس الخطر قد دق في صفوف القوى الديمقراطية الحداثية عندما فازت حركة النهضة بأغلبية النسبية في انتخابات المجلس القومي التأسيسي في أكتوبر (تشرين الأول) 2011.
وظل وجود الحداثيين في الحكم مشروطاً بمعاضدةٍ من حركة النهضة منذ نتائج الانتخابات 2014، وقد وصف الرئيس الحالي السيد الباجي قائد السبسي آنذاك هذه العلاقة بالتوافق الذي لا بد منه. وهكذا يكون الرئيس هو مَن أرسى قواعد الحكم السياسي في تونس رغم أنه في الفترة الأخيرة تراجع عن قاعدة التوافق وأعلن بصور مختلفة فك التوافق، ولكن يبدو أن قاعدة التوافق قد تغلغلت في الفعل السياسي التونسي بشكل يصعب بعده التراجع.
يمكن القول إن القاعدة السياسية اليوم في تونس تقول: مَن يحكم يحتجْ إلى مساندة من حركة النهضة. والظاهر أن الغالبية قد فهمت هذا المبدأ وتسير عليه بخطى متفاوتة حسب القناعات وكيفية قراءة موازين القوى. ولعل إحراز حكومة السيد يوسف الشاهد هذا الأسبوع الثقة بعد التحوير الوزاري الذي قام به والذي أثار حوله جدلاً كبيراً يؤكد ما ذهبنا إليه، حيث إن الحكومة تمت مساندتها من طرف نواب حركة النهضة، في حين أن يوسف الشاهد، مرشح حركة النداء، كانت حركته ضد التحوير وطالبت وزراءها بالاستقالة من الحكومة. وهناك من الوزراء من خيّر الاستقالة من الحزب على الاستقالة من الوزارة.
هذا الوضع غير المنطقي أحبط النخبة في تونس التي عبّرت عن استياء من تشرذم اليسار وتشتت قوى الحداثة وضعفها، وكيف أن الرابح هي حركة النهضة التي من المفروض أنها تمثل الخصم اللدود. فكيف يمكن فهم تعثر قوى الحداثة في تونس على هذا النحو؟
طبعاً لا يمكن الاكتفاء في التفسير بسبب واحد: فهو تعثر مركّب الأسباب ومتعدد. ولعل السبب المتصل بالبعد التاريخي لا غنى عنه في هذا السياق. فيجب ألا نَغْفل عن حقيقة أن التحديث، فكرةً ومشروعاً وتوجهاتٍ حزبية، كان مسنوداً من أجهزة الدول العربية حديثة الاستقلال. وهذه المساندة جعلت القوى التحديثية مرتاحة بعض الشيء في نضالاتها. وحتى في السنوات التي تصادمت فيها القوى الديمقراطية مع الأنظمة فإن الصراع كان ليناً وشاملاً لما هو حقوقي سياسي بالأساس. لذلك حتى المعارضة الديمقراطية الراديكالية لم تراهن في استراتيجياتها النضالية على عامة الشعب. بل إنّ خطابها ورهاناتها كانت في تواصل مع النخب بالدرجة الأولى. وهكذا نفهم لماذا لم تكن الأنظمة متخوفة من القوى الديمقراطية، لأنها كانت متيقنة من التأثير الشعبي المحدود لها.
هذه الأرضية التاريخية طبعت طريقة العمل السياسي للقوى الديمقراطية التحديثية، والحال أنها اليوم في صراع مع خصم إسلامي له طريقة عمل مختلفة تماماً، إذ يجمع بين الانضباط الحزبي والديمقراطية داخل الحركة وأيضاً الرهان بالدرجة الأولى على القواعد الشعبية.
أيضاً التعثر الحاصل هو نتاج تصادم إرادات ونرجسيات تنشد جميعها الحكم. لذلك هيمنت العلاقات الصراعية على كيفية التواصل بين قيادات القوى التحديثية التي تعتبر نفسها حارسة الحداثة.
نلاحظ أن إرث الرأي الواحد والنرجسية والديكتاتورية المتخفية في رداء التحديث بصدد عرقلة نمو قوى التحديث وجعلها في تعثرات متتالية، رغم أن عناصر قوية وإيجابية تساعد على انبثاق خلاق وجديد لقوى الحداثة والديمقراطية.