فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

تأملات في علاقة عميقة الجذور

على هامش مئوية جمال عبد الناصر التي نعيش أواخر أيامها والمتزامنة مع مئوية أنور السادات، يجد الصحافي المهتم بالشؤون المصرية والمتابع لها حقبة تلو حقبة، يستحضر لمناسبة هذه المئوية واقعة لافتة كثيرة المعاني الإيجابية من واجب الصحافي المتابع مثل حالي الإضاءة عليها واستقصاء تفاصيلها، خصوصاً أنها تؤكد معنى عمق الحرص المتبادَل بين المملكة العربية السعودية ومصر ماضياً وحاضراً ودائماً، وبالذات عندما تكون هنالك أحداث طارئة وينشأ نتيجة لذلك القلق بشكل عفوي، ثم يفرز هذا الشعور بالقلق مسعى أو جولات من المساعي أو نجدات يكتسب بعضها أحياناً صفة النجدة النخوية. وفي مسيرة العلاقة بين السعودية حاضنة الحرميْن الشريفيْن والمحروسة مصر حاضنة الأزهر الذي يرفد الأمتيْن علماء ومفكرين وأطباء وفقهاء، محطات كثيرة لكل منها طبعة تكون أحياناً وقفة كتلك التي يكمل فيها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، ما سار عليه إخوانه الراحلون. كما تكون عندما تستوجب الضرورة والتطورات وقفة تدعيم نوعي للقدرات العسكرية وتلبية الاحتياجات إلى السلاح أو على نحو ما حدث عندما شاركت قوات سعودية مع قوات مصرية في الميدان الفلسطيني قبل تسع وستين سنة.
الواقعة التي أفادتني العودة إلى وثائق الزمن المصري - السعودي الغابر في الخمسينات بعد أن أكون وأنا في القاهرة أنجزتُ تغطية حدث ما أو أزمة مستجدة في السنوات بين بداية الستينات وما يليها من عقود، تتمثل في مسعى قام به الملك سعود بن عبد العزيز - رحمة الله عليه - لرأْب الصدْع بين الرئيس الأول للجمهورية اللواء محمد نجيب والبكباشي (زمنذاك) جمال عبد الناصر، الذي لم يكن حُسم نهائياً أمر أنه الرجل الأول لثورة 23 يوليو (تموز) 1952.
حدث ذلك يوم السبت 27 مارس (آذار) من عام 1954. كان الكلام حول أزمة تتفاعل بين اللواء محمد نجيب الذي جرى اختياره رئيساً للجمهورية ومجلس قيادة الثورة، وبالذات جمال عبد الناصر الذي كان يومها في السادسة والثلاثين من العمر. ومن منطلق الاستراتيجية السعودية هدياً بنهج الملك المؤسس عبد العزيز ووصاياه لأبنائه بالحرص على مصر، جاء الملك سعود إلى القاهرة وبدأ على الفور، وبطلب من الرئيس محمد نجيب، سعيه بهدف رأْب الصدْع.
دعا الملك سعود إلى اجتماع في قصر الطاهرة كلاً من محمد نجيب وجمال عبد الناصر بحضور عبد الحكيم عامر. بعد ذلك انضم إلى الاجتماع بعض المستشارين.
كانت التمنيات كثيرة، لكن الأزمة استمرت على درجة من الحدة رغم أن رموز الأزمة خرجوا بعد الاجتماع الذي استمر حتى الفجر دون أن يحسموا الأمر. ولهذا السبب مدَّد الملك سعود زيارته بضع ساعات آملاً في إيجاد صيغة توافقية.
سارت التطورات بعد ذلك وضمن سلسلة من المفاجآت في اتجاه الأخذ بما يريد ضباط 23 يوليو وكبيرهم جمال عبد الناصر الذي بويع رئيساً للجمهورية.
بات الجميع في ذمة الله. وبقيت حاضرة في وثائق تلك المرحلة الصفحة الأولى من جريدة «الأهرام» عدد الأحد 28 مارس 1954 وعنوانها الرئيسي: الملك سعود يتوسط بين محمد نجيب ومجلس قيادة الثورة.
وأما فيما يتعلق بمشاركة قوات سعودية مع القوات المصرية في الميدان الفلسطيني عام 1949، فإن إحدى وثائق تلك الحقبة (على نحو ما ورد في ثلاثية الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي عن العلاقات السعودية المصرية في عهد الملك عبد العزيز) عبارة عن مذكرة من «رئاسة القوات المصرية بفلسطين» إلى وزير الحربية والبحرية المصرية، وردت فيها الفقرات التالية: «أرى أنه من باب المجاملة للدولة الوحيدة التي اشتركت معنا اشتراكاً واقعياً بجيشها أن نكافئ رجالها الذين اشتركوا وامتازوا في الميدان أسوة برجالنا...»... وعدا المكافأة بمفردات من الإشادة بالقوات السعودية المشارِكة وعددهم 32 بين ضباط وجنود، فإن القائد العام للقوات المصرية بفلسطين وبعد تَلقيِّه ما يفيد بموافقة الملك عبد العزيز على البادرة، أضاف إلى المكافأة المعنوية مكافأة تعكس عمق المشاعر والتقدير للمشاركة السعودية في الميدان المصري بفلسطين، وتتمثل في التالي «يُمنح الجيش السعودي علَماً مصرياً تخليداً لذكرى اشتراكه معنا في القتال في فلسطين، وسيُرفع هذا العَلَم في كل احتفال يقام في بلادهم، وسيكون ذكرى جميلة للروابط الأخوية بين البلديْن وأن يُمنح هذا العلَم في حفل رسمي يقام في القاهرة».
أعقْب تلك المشاركة وما تلاها من خطوات ومبادرات من بينها محاولة رأب الصدْع بين اللواء محمد نجيب والبكباشي جمال عبد الناصر، أن الأمراء سلمان وسلطان وتركي كانوا طليعة السعوديين السبَّاقين إلى التطوع في المقاومة الشعبية المصرية عند حدوث العدوان الثلاثي عام 1956 رداً على تأميم قناة السويس، وبعدما بات اليوزباشي جمال عبد الناصر هو الرئيس... وهو الذي، تأكيداً للعلاقة العميقة الجذور مع السعوديين بدءاً من محاولة رأُب الصدْع تلك، وجد خلال القمة العربية الاستثنائية في الخرطوم (سبتمبر/ أيلول 1967) في موقف الدعم السعودي من جانب الملك فيصل - رحمة الله عليه - ما من شأنه إبقاء مصر في خط الطمأنينة. وهي على هذا الخط تتبادل مع المملكة العربية السعودية في عهد الملك سلمان، كما في عهود إخوانه الراحلين، العلاقة التي تترسخ جذورها على هدى القول الطيب للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا يؤمِن أحدُكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه». أدام الله الأخذ بنهج تعميق جذور العلاقات وتعميمه لكي يلتقي الجميع تحت خيمة الوفاق والتوافق.