عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

ثقافة الاعتماد على الدولة

حكاية لندنية حكمتها العميقة تصلح نموذجاً لمعالجة المشكلات الاقتصادية الاجتماعية، ليس في بلدان الكثافة السكانية كمصر فحسب، بل في بلدان قليلة السكان غنية الموارد الطبيعية. التشابه في ثقافة سياسية شكّلت، على مدى العقود، سيكولوجية المواطن في علاقته بمؤسسات الدولة وما يتوقعه منها مقابل ضرائبه بل ما يتوقعه بلا دفع ضرائب، أو من حكومات لا تفرض ضرائب أصلاً كبلدان الخليج.
أرملة ستينية لا يكفي معاش زوجها لدفع مورغيج (رهينة ثمن شقة من غرفة واحدة، اقترض الزوج ثمنها وبقيت 10 أعوام أقساطاً) في حي تشيلسي الفاخر في العاصمة، فتضطر إلى العمل لدفع ما قيمته 1200 دولار شهرياً للسكن. نشرت احتجاجاً على «فيسبوك» أثار نقاشاً في الصحف المحلية في منطقة متوسط ثمن شقة من غرفتين فيها يتجاوز مليوني دولار. بيت ثمنه 10 ملايين جنيه إسترليني (13 مليون دولار) في شارعها تكلّف مليوني جنيه لإصلاحه لإسكان بعض من فقدوا مساكنهم في برج غرينفل.
أخلوا البرج نتيجة حريق (تسبب في موت 72) قبل 16 شهراً، وهو يتبع البلدية نفسها (تشيلسي وكينسينغتون أكثر بلدية ثراءً في بريطانيا)، ثلاثة أميال شمالاً في منطقة أقل حظاً اقتصادياً، أكثر سكانها في مساكن اجتماعية (المقابل للمساكن الشعبية في مصر). فلسفة هذا الإسكان أن يكون مؤقتاً حتى يجد الساكن وظيفة أو تتحسن أحواله فيخلي المسكن لشخص أكثر حاجة.
لكنها تحولت بوضع اليد إلى أن تورَّث للأولاد والأحفاد بسبب دعم البلدية المحلية للإيجار، حيث تقل قيمته عن خُمس إيجار مسكن مماثل في المنطقة.
غضب الأرملة ليس فقط لأن معظم النازحين من البرج المحترق مهاجرون (وبعضهم غير شرعيين أصدرت الحكومة عفواً عنهم ليفصحوا عن هويتهم لتلقي مساعدة خصصتها الشؤون الاجتماعية وللرعاية الصحية والنفسية)، بل لأنهم لن يدفعوا إيجاراً لأنهم من متلقّي الإعانة الاجتماعية.
أزمة الإسكان في لندن أدت إلى ارتفاع أثمان وإيجارات المساكن، وباستثناء أقلية من الأثرياء، فإن الغالبية العظمى تدفع أكثر من نصف دخلها الشهري للإيجار أو الـ«مورغيج»، كحال الأرملة التي اضطرت إلى العمل بعد سن المعاش. ثلثا البريطانيين يشترون المسكن بالتقسيط على 30 عاماً، لأن ثقافتهم تميل إلى الحرية الفردية في ما يفعلون بالمسكن، في حين أن الثقافة الأوروبية (خصوصاً من بلدان الحكومات الديمقراطية الاشتراكية المتعاقبة أو الكتلة الشرقية السابقة في أوروبا) يفضّلون السكن بالإيجار لأن هذا يريحهم من مسؤولية الإصلاح والصيانة والديكور التي يتولاها أصحاب البيت، أما المهاجرون من بلدان العالم الثالث فيفضلون السكن في مثل البرج المحترق لأنهم جاءوا من ثقافات تتولى فيها الدولة ومؤسساتها إسكان المواطنين. الفارق بين الثقافات أن الإنجليزي بطبعه لا ينجذب إلى الاشتراكية لأن المزايا الاجتماعية يصاحبها دائماً تقييد الحرية وتدخل الدولة في ترتيب أمور حياته الخاصة كما هو حال بلدان العالم الثالث، بينما تقع ثقافة أوروبا الديمقراطية الاجتماعية بين النقيضين.
حاولت البلدية إخفاء أرقام تكلفة ما بعد الحريق (أشار التحقيق إلى تقاعس المسؤولين والإهمال في اختيار مواد البناء)، واستخدمت الصحافة بند حرية المعلومات لتكشف إنفاق قرابة 30 مليون جنيه (40 مليون دولار) إقامةً مؤقتةً -والتشديد على عبارة مؤقتة- «للناجين» من الحريق.
المبلغ خمسة أضعاف تكاليف بناء البرج نفسه التي كانت 500 ألف جنيه عند بنائه عام 1973، أو 6.2 مليون جنيه بقيمة اليوم.
بعد إعادة إسكان ثلثي سكان البرج رفض الثلث الباقي 834 مسكناً عُرضت عليهم في 16 شهراً، أنفقت البلدية خلالها 235 مليون جنيه (310 ملايين دولار) لشراء مساكن أو إصلاح منازل قديمة لإعدادها بشكل فاخر مثل البيت المجاور للأرملة الغاضبة.
ماذا لو تصرف المسؤولون بحكمة اقتصادية وقدموا لكل ساكن 200 ألف جنيه كمبلغ أوّلي لرهن عقاري وشراء منزلهم الخاص، بـ«مورغيج» مثل أي شخص آخر؟ كان هناك 209 مُطالِب بالمساكن (رغم أن عدد الشقق 120 فقط!)، يعني 42 مليون جنيه إسترليني بحد أقصى، مما يوفر لخزانة يموّلها دافع الضرائب أكثر من 200 مليون جنيه، كما يوفر تكلفة الصيانة والحفاظ على المساكن على المدى البعيد، أو إنفاق هذا المبلغ لإسكان 209 آخرين في حاجة حقيقية إنسانية اجتماعية وليست فقط قانونية أخلاقية كحال معظم سكان البرج المحترق.
لكنّ الحسابات السياسية تتناقض والمنطق السليم لإدارة الاقتصاد وإدارة الشؤون الاجتماعية. منطقة البرج المحترق كانت تابعة لبلدية عمالية ورثتها بلدية تشيلسي المحافظة في إعادة ترسيم حدود الدوائر والبلديات.
ثقافة الاعتماد على الدولة والمسؤولين، بدلاً من الاعتماد على الذات (وهي تتناقض مع الشخصية البريطانية)، هي في صميم فلسفة حزب العمال الاشتراكية.
حكومات العمال المتعاقبة، سواء القومية أو على المستوى المحلي إما عمداً أو بطريق غير مباشر، بسياسة الإعانة الاجتماعية، أوجدت ما بين 25 إلى 28 في مناطق الإسكان الاجتماعي (كالبرج المحترق) من المتكلين على الدولة في معيشتهم. ويصوّت أكثر من أربعة أخماس هؤلاء للمرشحين العماليين للإبقاء على ما يرونه مكاسب اجتماعية (وصوّت 67 منهم للبقاء في الاتحاد الأوروبي بينما بلغت النسبة 54 بين مستأجري القطاع الخاص أو دافعي الـ«مورغيج»).
عندما منحت حكومة المحافظين بزعامة ثاتشر في الثمانينات حق تملك شقق الإسكان الاجتماعي لساكنيها بتخفيض، تحول عشرات الآلاف إلى ملاك، أي قلّ اعتمادهم على الدولة، بعضهم استخدم فائض القيمة كرأس مال لمشاريع عقار قروض، فساهموا في توفير مساكن بينما وفّرت البلدية ميزانية الصيانة.
المفارقة أن بلدية كينسينغتون وتشيلسي يحكمها المحافظون لا العمال، فلماذا لم تتبع فلسفة ثاتشر الأفضل اقتصادياً والأكثر عدالة لمن يستحقون، خصوصاً أن الإحصائيات تبيّن أن سكان هذه المساكن لا يصوّتون للمحافظين؟
الثقافة السياسية للإدارات المحلية في مجال الإسكان تلونت بالفلسفة العمالية لأنها فكرة اشتراكية أصلاً؛ ولذا احتفظت بلدية محافظة بالهيكل الإداري للأبراج السكنية الذي ورثته عن العمال، واكتفت بآيديولوجيا الخصخصة، بنقل الإدارة والصيانة لشركة قطاع خاص. وأثبت التاريخ، في كل بلدان العالم، أن تولي مقاولي القطاع الخاص العقود الحكومية يفتح الباب للفساد، الذي يتكاتف مع البيروقراطية والتي بدورها ترتكز على قاعدة من الذين يتوقعون أن تتولى الدولة إسكانهم وتدبير شؤونهم.
الخطورة أن هذا لا يضاعف التكلفة على الخزانة فحسب، بل يخلق أجيالاً لا تبذل الجهد في إنشاء المشاريع التي انطلقت منها الثورة الصناعية أصلاً. ويحضرني المثل الصيني عن تعليم الرجل الصيد ليطعم نفسه دوماً بدلاً من منحه سمكة لوجبة العشاء.