د. محمود محيي الدين
المبعوث الخاص للأمم المتحدة لأجندة التمويل 2030. شغل وظيفة النائب الأول لرئيس البنك الدولي لأجندة التنمية لعام 2030، كان وزيراً للاستثمار في مصر، وشغل منصب المدير المنتدب للبنك الدولي. حاصل على الدكتوراه في اقتصادات التمويل من جامعة ووريك البريطانية وماجستير من جامعة يورك.
TT

عن مسؤولية الشركات

تعددت الآراء، وكذلك الادعاءات، حول مسؤولية الشركات: هل تهدف فقط إلى تحقيق الربح، أم أن لها - أو بالأحرى عليها - التزامات اجتماعية؟
فللاقتصادي ميلتون فريدمان، الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد، مقال شهير نشره في عام 1970 تحت عنوان «المسؤولية الاجتماعية للشركات هي تحقيق زيادة في أرباحها»، وهو عنوان يلخص مضمون مقاله. ويذهب فيه إلى أن مديري الشركات لم يمنحهم أصحابها وملاك أسهمها صلاحية لينفقوا من مواردها على أنشطة خيرية أو خدمات اجتماعية، وأن هذا من شأن الحكومة التي تحصل ضرائب من أرباح الشركات لتنفقها على هذه الأغراض. وأن مديري الشركات إذا قاموا بذلك فيجب أن يكون من مواردهم الشخصية، باعتبارهم مواطنين في المجتمع، لا ممثلين لشركة ذات شخصية اعتبارية هدفها الربح. يستند أنصار هذا الرأي لافتراضات عن اقتصاد تحكمه قواعد السوق التي تنظمها رقابة فاعلة حصيفة ومنافسة عادلة، ومؤسسات هذه السوق تخضع لقواعد الحوكمة وتطبقها بشفافية، وفي هذا الاقتصاد تختص الشركات بشؤونها وتنفرد الحكومات بمسؤولياتها. وكثيراً ما يختلف الواقع عن هذا التصور.
ويتجدد الجدل اليوم حول دور ونطاق المسؤولية الاجتماعية للشركات، مع احتياج تمويل التنمية لإسهام القطاع الخاص وشركاته. فموازنات الدول وإيراداتها العامة لا تلبي الاحتياجات الضخمة لمشروعات التنمية الطموحة.
وقد دارت العلاقة بين الشركات والمجتمعات التي تعمل فيها، بما يعتبره مايكل بورتر أستاذ التنافسية واستراتيجية الشركات، بثلاث مراحل للتطور، تراوحت بين تبرع الشركة لبعض الأنشطة الخيرية، أو فرض نوع من الالتزامات المالية الإجبارية عليها، بخلاف الضرائب، توجه لأنشطة تحددها السلطات، ثم أتت المسؤولية الاجتماعية للشركات متزامنة مع إعلان الأمم المتحدة في مطلع القرن، لتطبيق الأهداف الألفية للتنمية التي انتهت في عام 2015، وقد حلت محلها أجندة التنمية المستدامة، التي توافقت الآراء على أهمية مشاركة القطاع الخاص في تحقيق أهدافها الطموحة، والتي ينبغي الانتهاء منها مع حلول عام 2030. هذه الأهداف الجديدة تستوجب إدماج عناصر الاستدامة، المتمثلة في تحقيق النمو الشامل، والتنمية الاجتماعية، وحماية البيئة، والحوكمة، في النشاط الأساسي للشركات، وليس مجرد وجودها كواجهة تعبر عن حسن النوايا تجاه المجتمع. ومع ذلك يبقى مضمون ما ذهب إليه فريدمان من ضرورة تحقيق الشركة للربح، فمن دونه ستزول الشركة من الوجود، ولو بعد حين، إفلاساً أو إدماجاً، ولكن تأتي المعايير الجديدة للاستدامة لترسخ كيفية حصول الشركة على هذا الربح.
ولنا في البلدان المتقدمة والناهضة وشركاتها عبر وأمثلة؛ ففي زيارة أخيرة لكوريا واليابان وجدت تطبيقات عملية لارتباط شركات ناجحة عالية الربح واسعة النشاط بالمجتمعات في مجال عملها، سواء في البلد الأم أو في بلدان أخرى تستثمر فيها أو تتاجر معها. إذ تتنافس الشركات في كوريا الجنوبية على صدارة مؤشرات الأسواق المالية للاستدامة. وهي مؤشرات قياسية للبورصات، تجمع بين المؤشرات المالية واعتبارات البيئة والتنمية الاجتماعية والحوكمة.
وهناك تجارب أخرى لاستخدام هذه المؤشرات، مع تباين في التطبيق، اتبعتها مصر والهند في العقد الماضي، وتظهر بجلاء أن الالتزام باعتبارات للاستدامة لا يتناقض مع تحقيق الربح؛ بل في أحوال ارتبط ارتفاع العائد مع الحرص على تطبيق المعايير البيئية والتنموية، فضلاً عن الحوكمة.
أما اليابان، فتقدم نموذجاً جديراً بالتدبر والانتفاع به، إذ تقود اتحادات الشركات منافسة فيما بينها في إطار التزام عقدته على احترام صارم للقوانين والقواعد المنظمة لأعمالها، بما يحقق أهداف التنمية المستدامة، ويخلق قيمة مضافة حقيقية تفيد عموم الناس، ويولد فرصاً للعمل. واتفقت الشركات من خلال اتحاداتها ومنظماتها المركزية والإقليمية على عشرة مبادئ كقواعد للعمل والتنافس، تتبنى مسلكاً جديداً نحو الاستدامة، وسلوكاً مختلفاً في الإدارة، وتتمثل في الأسس والمعايير الآتية:
1- العمل على تطوير منتجات وخدمات مفيدة اجتماعياً، وذات نوعية عالية، من خلال الابتكار واستخدام قواعد البيانات والمعرفة، بكفاءة تعلي الإنتاجية، وانضباط يحمي خصوصية الأفراد وحقوق الملكية، بما في ذلك الملكية الفكرية.
2- احترام قواعد المنافسة الحرة والعادلة، وإنجاز المعاملات الاقتصادية وفقاً للوائح متوازنة المعايير، سواءً في شراء مستلزمات الإنتاج، أو في طرح المنتجات للبيع في الأسواق.
3- الإفصاح عن نشاط الشركات وفقاً للمعايير الملزمة، بما يشمله ذلك من تقارير للمستثمرين وحملة الأسهم، والجهات المعنية في المجتمع.
4- تسيير العمل في نشاط الشركات في الداخل والخارج بما يتوافق مع حقوق الإنسان ومواثيقها، ومراعاة الحالات التي تتطلب مراعاة خاصة في أي مرحلة من مراحل إنتاج الشركة.
5- توفير معلومات تفصيلية واضحة للمستهلكين، تسمح لهم باختيارات بين البدائل على بينة.
6- توفير بيئة عمل صالحة لكافة العاملين، مراعية أسس عدالة الفرص والأجور، واعتبارات السلامة والصحة والأمان.
7- المبادرة بتطبيق إجراءات حماية البيئة، ومنع التلوث، وتخفيض انبعاثات الكربون الضارة، وتدوير المخلفات.
8- التعاون مع السلطات المحلية ومؤسسات المجتمع المدني، في تطوير المجتمع المحلي، من خلال أنشطة ذات نفع حقيقي، ومتوافقة مع النشاط الرئيس للشركة.
9- إعداد نظام متكامل لإدارة الأزمات، بالتعاون مع جهات الاختصاص للتصدي لأخطار الإرهاب والجريمة المنظمة، وتهديد نظم المعلومات والكوارث البيئية.
10- قيام الإدارة العليا بالشركات بمتابعة تنفيذ الإجراءات والمعايير السابقة، باعتبارها مسؤولية تقع على عاتق الإدارة العليا تحديداً. والإدراك التام بأن أي تهاون بشأنها من جانب الشركة، يضر بها وبالثقة فيها، بما يستدعي فوراً إعلان الشركة عن تحمل المسؤولية، واتخاذ التدابير المناسبة للتعرف على سبب المشكلة وحلها، ومنع تكرارها.
إن تطبيق هذه المعايير لن يأتي من أبواب التبرع والأعمال الطوعية، ولا يستقيم مع تنفيذها أن تكتفي الشركات بأن تجعل لديها وحدة للدعاية بأنشطة خيرية متناثرة تحت مسمى المسؤولية الاجتماعية.
ولقد اتخذت الشركات التي تأخذ هذه المعايير مأخذ الجد، هياكل جديدة لتنظيم العمل، فأسست إدارات تنفيذية للاستدامة، حلت محل وحدات المسؤولية الاجتماعية التقليدية. ربما احتفظت هذه الوحدات بالمسمى القديم ذاته، لفترة قد تطول أو تقصر، ولكنها في الهيكل الجديد أصبحت فعلياً ذات صلاحيات تنفيذية محددة، وتتبع الإدارة العليا مباشرة، وتعمل على متابعة تطبيق معايير وإجراءات الاستدامة، وإدماجها في مراحل الإنتاج وأولوياته وعمليات اتخاذ القرار، وتحث الشركاء التجاريين والموردين، عبر سلاسل الإنتاج والتوزيع، على التوافق معها.
إن هذه أمثلة لنماذج تطبيقية لشركات أدمجت معايير الاستدامة في نشاطها، وجعلت من أهداف التنمية فرصاً للتوسع في إنتاجها، وتحقيق مزيد من الربح، فتفيد الاقتصاد بعائداتها ولا تضر المجتمع بنشاطها، ولم تنتظر أن تأتي التشريعات بما يلزمها بمسؤولياتها؛ بل سبقتها بالتطبيق، فإذا أتى التشريع بنصوصه كانت الأسبق التزاماً بها؛ ذلك لأن هذه الشركات، كما رأينا في الحالة اليابانية، تعمل في إطار آليات للمنافسة ومواثيق ملزمة لسلوك الشركات وذويها من أهل التجارة والصناعة، فإذا ما انحرفوا عنها كان في ذلك إيذان بفقدانهم للثقة والسمعة بين منافسيهم ومستثمريهم والمتعاملين معهم، وفي ذلك ما لا يقل حسماً عن تطبيق جزاءات في القوانين المقررة، وهي ليست بديلاً عنها بأي حال من الأحوال.
* الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي البنك الدولي