فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

سطو مسلح على الدين

لم يتوقف كثيرون، ربما بسبب متواليات الفواجع العربية من الموصل إلى غزة، عند دلالة القرار الذي اتخذه المغرب بمنع رجال الدين من الاشتغال بالسياسة، أو بما سماه المغاربة «تقنين الشأن الديني»، على الرغم من خطورة هذا القرار غير المسبوق في تاريخ المنطقة، إذا استثنينا التجربة التونسية أثناء حكم بورقيبة. والفرق بين التجربتين، التونسية والمغربية، أن الأولى كانت مرتبطة بالتوجه العام للحبيب بورقيبة، الذي كان توجها علمانيا شمل مختلف مناحي الحياة، وتنظيم شؤون المجتمع. ولربما لهذا السبب انحصرت التجربة التونسية ضمن حدودها، أو حوصرت بحجة العلمانية والإلحاد، خاصة أنها جاءت مبكرة جدا بالنسبة لظروف المجتمعات العربية والإسلامية وشروطها الاجتماعية والثقافية آنذاك.
وإذا وضعنا القرار المغربي، وهو قرار تاريخي شجاع حقا، في هذا السياق, فسنجد أنه مختلف في حيثياته عن التجربة البورقيبية، فهو لا ينطلق من أسس نظرية أو فكرية، وبالطبع لا يستطيع أحد أن يتهم الملك المغربي بالعلمانية، بل جاء نتيجة قراءة دقيقة ليس للوضع المغربي فقط، وإنما للوضع العربي والإسلامي ككل. بل يمكن القول إن هذا القرار ولد معمدا بالدم، بعد الضرر الكبير الذي ألحقه الإسلام السياسي بالدين قبل المجتمع. لقد أساء قسم من رجال الدين إساءات لا تغتفر إلى جوهر الدين بعدما دسوا أنوفهم في الشأن السياسي، وأوّلوا النص المقدس لأغراض سياسية دنيوية زائلة. إنهم، في حقيقة الأمر، لا يخلطون بين الدين والسياسة كما يظن، بل ينزلون النص المقدس من عليائه، ويهبطون بالروحي إلى حيث التراب، والوحل، والدسيسة خلف الكواليس، وصراع الديوك، والربح والخسارة، بدل أن يرتفعوا بالأرضي الوضيع إلى رحاب الروحي، والنقي، والعفيف، وهذه رسالة كل الأديان السماوية، وهو ما أرادت أن تحققه فوق الأرض. ما نشهده الآن هو أكبر عملية سطو، بل سطو مسلح، على الدين، وأكبر عملية سرقة يمكن أن يتعرض لها أي دين، منذ الثورة الإيرانية، التي سرقها الإسلام السياسي وحولها إلى مؤسسة دينية حاكمة للمرة الأولى في مجتمع إسلامي معاصر، إلى خلافة «داعش».
منذ ذلك الوقت، قسموا الإسلام، وهو واحد، إلى قسمين: سياسي وغير سياسي. وهو تقسيم كاذب، مخادع، فالدين، أي دين، لم يكن يوما سياسيا. السياسة والدين لا يلتقيان أبدا. السياسة تكتيك، ومواقع وتبدل مواقع، ومصالح وتغيير مصالح، وباطن وظاهر غير متطابقين غالبا، ووسائل وأهداف قد تكون متنافرة، وبالتالي هي لعب بمعنى من المعاني، لعب قد يكون غير بريء في معظم أشواطه، وليست له غالبا قواعد ثابتة تتعامل وفقها الأطراف المتصارعة، بينما الدين استراتيجية إنسانية لكل البشرية جمعاء، ومهمة رجال الدين الحفاظ على هذه الاستراتيجية والتثقيف والتنوير بها، وهي مهمة أسمى بكثير من مهمات السياسي الزائلة مهما طالت. لا أحد يسيء للدين الآن سوى هؤلاء الذين يحكموننا باسم الدين. وانظروا، مثلا، ماذا حصل للعراق، بعد إيران، حيث استبدلت الأحزاب الدينية المنابر الحسينية بأجهزة الدولة، وتولى إدارة البلاد وأمن العباد تلاميذ حوزات وخريجون فيها، مع احترامنا الشديد لهم، ولكن مكانهم ليس غرف الوزارات والإدارات التي لا يعرفون ماذا يفعلون بها، بل هناك في الحسينيات والجوامع والمساجد حيث تكمن وظيفتهم الحقيقية السامية، التي يمكن أن يفيدونا من خلالها في حياتنا الدنيوية، ويحافظون أيضا كما يجب على طهارة الدين الذي يتحدثون لفظا باسمه، لكنهم يسيئون إليه فعلا أيما إساءة حين يحولونه إلى لعب سياسي رخيص.
على هؤلاء أن يختاروا: إما الدين.. وإما السياسة.