جاهدة وهبي
مطربة وملحنة وشاعرة لبنانية
TT

يدهشني رمضان

لا أعرف ماذا يحدث، أجدني كل سنة أستقبله كما لو كان حبيبا وليس شهرا. أنتمي إلى فرحة الصائمين.. إلى الآيات البينات، إلى تلك التجربة الخاشعة التي خضتها منذ مراهقتي مرارا مع الأصدقاء.
كنت أصوم معهم.
أقول لهم بأنه لا يمكنهم الظفر بهذا الثواب وحدهم، كما أنني نظمت غير مرة إفطارا لهم.. وبعد الإفطار، كنا نخرج للسهر والسمر ونتبارى في قص الحكايات وقراءة الشعر وإطلاق النكات وتذوق الحلويات الرمضانية خاصة الكلاج، متنقلين من شارع إلى آخر حتى يأتي موعد السحور. وأكثر ما أحبه في السحور الفول مع الكثير من زيت الزيتون والسحلب.
يحضرني الآن ذاك الصديق الذي لا أعرف أين اختفى، إذ كانت هوايته في رمضان أن يشتغل مسحراتيا، كنا نجوب معه الأزقة منشدين «يا نايم وحد الدايم» و«عليك صلاة الله وسلامه».
وفي كثير من الأيام وبينما ينتظر الناس في بيوتهم ومحالهم موعد أذان المغرب ليفطروا، كنت أدور في سيارتي ببيروت، والشوارع شبه فارغة، لأنصت إلى الصلاة والأذان الآتي من الجوامع فينتهي بي الأمر واقفة عند ناصية الشارع قرب جسر الكولا، حيث أحاول، بمسجلتي الصغيرة، تسجيل الأذان الصادح من المسجد هناك، لأعيد لاحقا الاستماع إليه في البيت ومحاولة تعلم المزيد من أصول التجويد والإنشاد ومخارج الحروف.
كان لهذا الشهر فضل كبير علي.. كنت أتردد إلى مسارح بيروت لأحضر الأمسيات الرمضانية وأشاهد الفرق المولوية والدراويش، فصار لدي شغف التعرف أكثر فأكثر على مقامات وأحوال المتصوفة والعرفانيين، ورحت أقرأ تجلياتهم وفتوحاتهم وأنهل من كتب الشعر الصوفي.
ذكريات جميلة كان لها الأثر الأكبر والأحلى في تشكيل وعيي الأدبي، وخياراتي الموسيقية لاحقا.
ما زلت أحتفظ بالمشاعر نفسها في رمضان. ما زلت أنتظره بالشغف نفسه. ما زلت أصوم مع الأصدقاء أحيانا وما زلت أدعو للإفطارات وما زلت أتجول في أزقة المدينة مطاردة صوت المسحراتي.
ما تغير هو أنني صرت أحيي سهرات الطرب بنفسي في رمضان، ليس في بيروت فقط وإنما في مدن عربية أخرى، وهذا ما جعلني أكتشف رمضانيات المدن العربية.
القاهرة تصوم بنشاط وتبقى زحمة شوارعها هي هي، صوت الباعة.. الأطفال والفوانيس الملونة.. قارئو القرآن وأصواتهم الرائعة.. صوت الشيخ رفعت وصوت الشيخ عبد الباسط.. مدفع الإفطار الذي ارتبط دويه في وجدان الإنسان المصري باجتماع شمل العائلة والدفء الأسري.. وجبات رمضان المنوعة، الكشري والزبادي بالخيار وعصير المانجو الطيب، والملوخية أكلتي المفضلة، والسحور في شارع محمد علي، و«المسحراتية» على طبلة «البازة» نردد معهم «وحوي يا وحوي».
الخليج يصوم بخشوع، ولرمضان هيبته ووقاره مع الالتزام بمواقيت الصلاة كلها من دون أي تهاون.. موائد الرحمن.. سهرات الأحباء.. الابتهالات والأدعية المختلفة.. ليلة القدر وأهميتها.. العشر الأواخر.. صلاة التهجد.. الأطفال وفرحتهم وليالي «القرقيعان» أو «الناصفة» في منتصف رمضان، كم كان يحلو لي أن أعود معهم إلى طفولتي، أن ألبس مثلهم لباسا تقليديا وندور على الأصدقاء نردد الأناشيد والابتهالات ونقرقع على الأواني النحاسية ونأكل الحلوى.
المغرب العربي يصوم بسكون وطمأنينة.. كم كنت أسعد عندما أشارك في المغرب أو تونس بأمسية رمضانية.. كنت وأنا في طريقي إلى المسرح أشتمّ روائح شهية وغريبة تتصاعد من البيوت.. رائحة البزار (البهار) مع رائحة الحريرة مع روائح الحلويات وأحبها إلى قلبي «الفقاس».. الخبز الساخن على العربيات الجوالة وأسارع بعد انتهاء حفلتي لملاقاة الأصدقاء للاحتفاء بطقوس الشاي ومتابعة السهرة في خيمة من خيم رمضان أو في أي ساحة عامة حيث ينتشر الناس بكثافة لسماع الموسيقى الصوفية.. كما تحضرني أجواء صلاة التراويح، الأدعية والركعات، تلك الصلوات التي تستقطب أعدادا هائلة من الناس وأصوات المقرئين الشباب الشجية.
اليوم، العواصم العربية لم تعد كما كانت.. ولا رمضان ظل كما هو. وحده الله هو هو.
* مطربة وملحنة وشاعرة لبنانية