فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

مَن يدمِّر عليه أن يعمِّر

عملاً بالمعادلة الموضوعية، فإن مَن قام بالتدمير عليه واجب التعمير. أما أن يدعو الذي دمر، ونعني به الرئيس فلاديمير بوتين، يوم الخميس 11 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، المجتمع الدولي إلى مشاركته إعادة إعمار سوريا، فإن في هذه الدعوة ما يثير الاستغراب.
على مدى ثلاث سنوات، استقر الاستيطان العسكري الروسي في سوريا، المستند إلى اتفاقيات متسرعة بين الرئيس بشَّار الأسد والرئيس بوتين، تستند إلى معاهدة أبرمها الرئيس حافظ الأسد الذي كان الشأن اللبناني قد بلغ أيامه حداً لم يعد موضع ارتياح الولايات المتحدة ودول أوروبا، فرأى أن إبرامه هذه المعاهدة يوم 8 أكتوبر 1980 يشكِّل عنصر حماية لسوريا، وـ«لبنانه» في الوقت نفسه، فضلاً عن أنه بإبرامه هذه المعاهدة يسدي للقيادة السوفياتية خدمة معنوية، كونها ما زالت تعيش في جانب من همومها واهتماماتها، عقب الصدمة - اللكمة المعنوية من جانب الرئيس المصري أنور السادات الذي لم يكتفِ بإنهاء مهمة الخبراء والمستشارين العسكريين السوفيات، بخطوة من جانبه اتخذها يوم الثلاثاء 18 يوليو (تموز) 1972، وإنما أتبعها بعد ذلك، يوم 14 مارس (آذار) 1976، بإلغاء المعاهدة التي أبرموه إياها (الترويكا: بريجنيف. كوسيغين. بودغورني) بدافع عدم الاطمئنان إلى أنه سيصون العلاقة معهم على نحو ما صانها الرئيس عبد الناصر. وعند استحضار ذلك اليوم، الذي عايشتُ مع كوكبة من الصحافيين المصريين والمراسلين الأجانب ساعاته المضنية، يمْثُل أمامي الوجه المتجهم للسادات وهو يضع يوم الخميس 27 مايو (أيار) توقيعه، تجاوباً مع إصرار بودغورني على ألا يعود إلى موسكو إلا وتوقيع الرئيس السادات على المعاهدة.
وإلى جانب هذه الخدمة المعنوية، فإن الرئيس حافظ الأسد وجد في ضوء تداعيات زيارة السادات إلى القدس يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) 1977، ثم إبرامه يوم 17 سبتمبر (أيلول) 1978 «معاهدة كامب ديفيد» مع إسرائيل، برعاية الرئيس جيمي كارتر، وبدء نضوج وجهة النظر العربية - الدولية بضرورة إيجاد تسوية للحرب اللبنانية، تنحسر بمقتضاها الهيمنة السورية على لبنان، أنه في أشد الحاجة إلى رافعة صلبة للوضع السوري المحتمل حدوث تصدعات فيه، وليس في المشهد الدولي مَن يكون السند والرافعة سوى الاتحاد السوفياتي، فقصد موسكو طالباً التعاهد، وكانت التلبية سريعة. ففي هذه الحال، يُمسك الاتحاد السوفياتي بالدولتيْن الرقميْن الصعبيْن في المعادلة الإقليمية - الدولية، وهما سوريا التي أبرم الرئيس حافظ الأسد معاهدة معه، متأخراً ثماني سنوات عن العراق الذي أبرم نظامه الصدَّامي، بتوقيع الرئيس أحمد حسن البكر، يوم 19 أبريل (نيسان) 1972، معاهدة خجولة ووقائية، وببنود مختلفة عن تلك التي تضمنتْها المعاهدة التي أبرمها حافظ الأسد، وكانت اقتصادية - عسكرية - سياسية بامتياز. وكما أن التشقق في العلاقة الساداتية - السوفياتية كان نقطة تحفيز مارسها حافظ الأسد، فإن الأمر نفسه مارسه صدَّام حسين، من دون مردود بحجم المأمول نيْله.
ما يلفت الانتباه عند المقارنة بين المعاهدة المصرية - السوفياتية، ونظيرتها السورية - السوفياتية، المفارقات الآتية، التي هي ذات معنى:
كانت المعاهدة التي أبرمها السادات مع ثالث الترويكا (بودغورني) من 12 مادة، وتم التوقيع عليها في القاهرة، وباستعجال من بودغورني، ومسايرة اضطرارية من السادات، فيما المعاهدة السورية - السوفياتية من 15 مادة، أبرمها حافظ الأسد في موسكو، كونه المضطر إليها المستعجل إبرامها لظروف أوردناها في سطور سابقة. ومن أجل ذلك، زار موسكو صديقاً، وعاد منها معاهداً. وإلى جانب ذلك، فإن المعاهدة الأسدية - السوفياتية تضمنت موقفاً من الصهيونية، باعتبارها «استعماراً جديداً وعنصرياً» يستوجب من الطرفيْن السوري والسوفياتي «النضال ضدها، والوقوف إلى جانب الاستقلال الوطني». وهذه الفقرة - الموقف لم تتضمنها المعاهدة الساداتية - السوفياتية. كما تضمنت معاهدة حافظ الأسد وليونيد بريجنيف أنها نافذة المفعول لمدة عشرين عاماً، فيما معاهدة السادات وبودغورني تقتصر على 15 سنة. أما الفرق في الإبلاغ المسبق عن الرغبة في إيقافها، فإنه قبْل ستة أشهر في السورية - السوفياتية، فيما هو سنة في المصرية - السوفياتية. وواضح من ذلك أن الكرملين يهمه الإطباق ما استطاع إلى ذلك سبيلاً على القرار المصري في مرحلة انتقالية تعيشها مصر، ويراها السوفيات على درجة من الارتباكات نتيجة الاستعداد العسكري من جانب مصر الساداتية لمحو آثار هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967، وخلط الأوراق الذي بدأه السادات لتنقية الإرث الناصري.
ويبقى مهماً أن حافظ الأسد لم يضع فقط توقيعه على المعاهدة إلى جانب الرجل الأول بريجنيف، وإنما أن يتم تبادُل وثائق الإبرام في دمشق، وعندها توضُع المعاهدة موضع التنفيذ.
المعاهدة التي أبرمها حافظ الأسد عززت بعض الشيء شأنه، إلا أنها في موضوع الصراع مع إسرائيل لم تغيِّر شيئاً من واقع الحال. وإذا جاز القول، فإن معاهدة الأسد الأب أفرزت الاتفاق الأكثر خطورة، الذي تفاداه الأب، ووجد الابن نفسه مكبلاً به. وعندما نتأمل في الذي أراده الرئيس فلاديمير بوتين من الرئيس بشَّار الأسد، مقابل مساندة نظامه ودرء خطر الإسقاط عنه، وكيف هو التعامل الفوقي من جانب بوتين الذي لم يكلف نفسه مرة زيارة دمشق، ولو لبضع ساعات، نصل إلى حقيقة بالغة المرارة، وهي أن الاتفاقيات، التي تمت بالتدرج مع انخراط روسيا البوتينية حربياً في الأزمة السورية، جعلت ما أراده الأسد الأب تعاوناً محسوباً بدقة، ومظلة دولية ترُد عن نظامه بعض الشيء أذى اللاعبين والمتلاعبين الدوليين في ساحات المنطقة العربية، نوعاً من أنواع الاستيطان العسكري الروسي، براً وبحراً وجواً. ويكفي على سبيل المثال القاعدة الجوية للروس في حميميم، والقاعدة البحرية في طرطوس، إلى جانب شروط التعامل مع العسكريين الروس وأسلحتهم وآلياتهم، فضلاً عن الحصانة لهم (لا يحق للجمهورية العربية السورية التقدم بأي طلبات للاتحاد الروسي، ومجموعة الطيران الروسي وموظفيه، كما لا يحق لها رفْع أي دعوى متعلقة بنشاط مجموعة الطيران الروسي وموظفيه». وإلى جانب ذلك، «تتحمل الجمهورية العربية السورية المسؤولية عن تسوية جميع المطالبات التي قد تطالب بها أطراف ثالثة نتيجة للأضرار الناجمة عن أنشطة مجموعة الطيران الروسي وموظفيه». ومعنى ذلك أن الطيار الروسي منزه عن المقاضاة، وهذا حق غير جدير بمَن يلقي صواريخ تدمر البنيان وتقتل الإنسان، وهذا كان - وما زال - دور الصديق الروسي الذي نجح في التمدد يوماً تلو آخر، وما زال في انتظار قوننة أحقيته بالورقة السورية كاملة، خصوصاً أن الاتفاق المبرم في شأن الدور الحربي الروسي هو لأجل غير مسمى؛ ما معناه أنه يبقى ساري المفعول إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، كأن نسمع ذات يوم بأنه حدث في سوريا ما جرى قبل ستة وأربعين عاماً في مصر، من حيث إنهاء مهمة الخبراء والمستشارين العسكريين السوفيات، وإلغاء معاهدة «الصداقة والتعاون»، وعلى نحو ما سبق أن فعله الزعيم الوفدي مصطفى النحاس الذي وقف في البرلمان وبيده ورقة، مخاطباً النواب: «ها هي المعاهدة مع الإنجليز. أنا وقعتها، وأنا ألغيها». فهذه الاتفاقيات والمعاهدات تمت بفعل الاضطرار، وليس الاقتناع، ومن أجل ذلك فإنها آيلة للإلغاء. وأما بدعة الرئيس بوتين، المتمثلة بمطالبة المجتمع الدولي بالمشاركة في إعادة إعمار سوريا، فإنها مدعاة للتساؤل: أليس مَن يدمِّر هو الذي عليه أن يعمِّر تكفيراً عن ذنوب ظاهرها نجدة صديق وباطنها الاستيطان في تربة عصية على الباحثين عن أمجاد على حساب مآسي الآخرين؟
... وللحديث بقية عن بدعة معاهدات الصداقة والتعاون التي مآلها دائماً إلى إلغاء، لأنها في محتواها لا صداقة ولا تعاون، وإنما استقواء على مستضعفين أو مأزومين.