إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

أين ابن فرناس؟

تنصح زكية جورج صاحبها بأن يطير ولا يوكّر، أي ألا يهبط على وكر، لأنه إن فعل ونزل إلى بحر العشق سيغرق مثل كثيرين سبقوه. وزكية مطربة حلبية ذات صوت ساحر، سافرت إلى بغداد في عشرينات القرن الماضي وعملت مغنية في ملاهيها. وما زالت أغنيتها الجميلة تلك تتردد بين المكتهلين من العراقيين... «طير لا توكّر أنصحك طير». وفي زمن الهجرات المليونية صارت الأغنية شعاراً وخريطة طريق.
في مبنى يسمونه «البيت الأحمر» قرب ساحة الباستيل في باريس، يقام معرض عن علاقة البشر بالطيران. ومنذ أن عاين الإنسان القديم العصافير والنوارس والصقور والفراشات وهو يحلم بأن يرتفع عن الأرض ويحلّق مثلها. رأى الأسماك تنساب في الأنهار فقام بتقليدها وتعلّم السباحة.
ثم جرّب الطيران وألصق على ذراعيه ريشاً لكي يماثل الطيور فلم يفلح. وقد تتبع القائمون على المعرض كل تلك المحاولات التي خلدتها السينما والتصاوير والمنحوتات والمهارات اليدوية. ويمكن للزائر أن يتمدد على سرير مريح ويخفق بذراعيه وهو يتابع على السقف فيلماً يوهمه بأنه يطير. وهناك درج يمتد عالياً مثل سلالم الإطفائيين، صنعه الإيطالي فابيو موري من المعدن والخشب، يمثل الرغبة في الارتقاء إلى ما فوق السحاب. وبجوار الدرج منحوتة للألماني ستيفان بالكنهول لرجل بالقميص والسروال له جناحان ينبتان من كتفيه. وصوّر السويسري أورس لوثي نفسه جالساً على بساط الريح، مثل علاء الدين في «ألف ليلة»، أو مثل فريد الأطرش في الأوبريت التي كتب بيرم كلماتها.
من بين كل المجسمات واللوحات والوثائق والأفلام، تلفت النظر صورة فوتوغرافية للمصور الفرنسي الفذ هنري كارتييه بريسون، يعود تاريخ التقاطها إلى الثلاثينات. وفيها نرى عريساً بكامل أناقته يدفع عروسه على أرجوحة خشبية للأطفال. إنها تضحك مسرورة وهي تقف على الخشبة متشبثة بالحبلين، وهو يضحك مسروراً لسرورها، يؤرجحها فتحلق عالياً وذيل فستانها الأبيض ينسدل وراءها. هل تكون سعادة الحمامة بجناحيها أكثر من هذه العروس؟
كيف جمع المعرض كل هذا الشتات، من القارات كلها، ولم يتوقف عند عباس ابن فرناس، الحكيم والعالم المخترع والشاعر الأندلسيّ؟ قرأنا في الكتب المدرسية أنه كان أول من حاول الطيران بجناحين عملاقين. وقام بتجربة جناحيه والتحليق من مرتفع بالقرب من قصر الرصافة، في بغداد. وهي تجربة سجلها المقريزي، لم يُكتب لها النجاح لكن يكفيه أجر الاجتهاد وشرف المحاولة.
وكما هي عادة الشعوب، شرقاً وغرباً، في التعامل مع أصحاب العقول الرحيبة، لم يتقبل معاصروه اختراعاته السابقة لزمنها، واتهموه بالزندقة، وحاكموه أمام الملأ، ولم يجدوا في النهاية ما يحول دون تبرئته. وهناك اليوم جسر يحمل اسم عباس ابن فرناس في قرطبة، وطابع بريدي ليبي لتكريم ذكراه، وتمثال له عند مدخل المطار الدولي في بغداد، باعتباره أول طيار عربيّ. وقد مرّ بالتمثال كثيرون من الذين حفظوا نصيحة زكية جورج.
وعودة إلى موقع المعرض، على شمرة عصا من الباستيل، الساحة الباريسية التي يتوسطها تمثال لامرأة تفرد ذراعيها عالياً. إنها الحرية في انعتاقها من القيود، تحلّق في الموقع الذي كان سجناً شهيراً. قلعة كالحة وصفها أحد المؤرخين بأنها «ملتقى المثقفين»، وفيها حلّ كثيرون من الذين لم تلق كتاباتهم هوى في نفس الرقيب. وقد هدم الثوار السجن الرهيب وأرخوا للثورة الفرنسية من تاريخ سقوطه، سنة 1789. كم سجيناً وجدوا لحظة الاقتحام؟ سبعة، لا غير.