إميل أمين
كاتب مصري
TT

الحضارة الغربية... ازدهار أم اندحار؟

مثير إلى حد الاستفزاز العنوان المتقدم، إذ كيف يجرؤ كاتب من دول العالم الثالث، كما يصنفنا الغرب، على التساؤل المتقدم، لا سيما أن المسافة بين الواقع الغربي المتقدم جوازاً وبين الشرق تباعدت وتعمق الشرخ الحضاري كثيراً جداً؟
يتفهم صاحب هذه السطور أن هناك فارقاً كبيراً بين الحضارة وبين المدنية، فالأولى منظومة من الأخلاق والآداب الإنسانية التي تولد حياة بشرية هانئة أقرب ما تكون إلى اليوتوبيا أو المدينة الفاضلة، فيما الثانية ربما تعطيك جل المنتوجات العصرانية التي تسهل لك الحياة، غير أنها لن تشبع الروح الظمأى إلى ما هو روحاني وليس جسدانياً فقط.
في تسعينات القرن المنصرم، بشرنا فرانسيس فوكوياما الياباني الأصل، الأميركي الجنسية، بأن الرأسمالية هي نهاية التاريخ، كما أن النسق الليبرالي بهويته الأميركية تحديداً هو كمال الأجيال ومشتهاها منذ بدء الخليقة حتى الساعة.
لم يختلف طرح فوكوياما عن طرح النازية، وقصة الألف عام للرايخ الثالث التي نادى بها هتلر، وهي في عمقها فكرة شمولية ديكتاتورية، لأنها تسد الطريق على الجدل التاريخي، وما يسميه كارل ماركس «الديالكتيك»، فالنهر الذي تهبطه تتغير مياهه كل ثوان، ما يعني ألا نهاية للتاريخ إلا يوم تتوقف حياة الإنسان على الأرض.
حاجج أهل الغرب طويلاً وكثيراً بأن الحضارة الغربية الليبرالية توفر لمواطنيها منافع أكبر بكثير إلى حد بعيد مما توفره الحضارات الأخرى، وقالوا إن المجتمع الليبرالي هو أنجح صيغة تم ابتداعها حتى الآن، ويحتمل أن يمكن ابتداعها في أي وقت، من أجل مزجها لاقتصاد نابض بالحيوية والحراك مع مجتمع يتحلى بأعلى المثل العليا للكرامة الإنسانية وللاستقلال الذاتي.
لكن شواهد ونوازل جديدة آنية ترد هذا الكلام وتذهب مذهباً آخر فيه من المخاوف الكثير جداً على مستقبل الغرب، الذي أضحى أمام مفترق طرق؛ فإما الازدهار والنمو من جديد، وإما الاندحار كالعديد من الحضارات التي سادت، وتالياً بادت، في تاريخ الجنس الإنساني.
يفكر الغرب بعمق هذه الأيام في الكثير جداً من التغيرات التي تضرب الهياكل البنيوية لحضارته، ويقارب ما بين العلمانية الجافة والأصولية المتطرفة، فيما تقف أصوات أخرى على حقائق الديموغرافية التي تعد الشأن الأكثر إزعاجاً للغرب عموماً.
خذ إليك على سبيل المثال ما أورده الفيلسوف الفرنسي اليساري ريجيس دوبريه في كتابه «الأنوار التي تعمي»، حيث يضع يده على واحدة من كبريات الخطوب الأوروبية المعاصرة، وهي الإغراق في العلمانية إلى الدرجة التي باتت معها أنوارها تعمي، وما جرى ذلك إلا حين استبعدوا الروحانيات والأخلاقيات، وبات المنحى المادي هو المعيار الوحيد لتقدم أمم الغرب، وخلفوا وراءهم كافة الطروحات الماورائية، سواء كانت أدياناً توحيدية، أو قيماً أخلاقية، وباتت الرأسمالية المتوحشة هي المقياس الواحد الوحيد الذي يتعاطى به البشر هناك.
نقد دوبرييه للواقع الأوروبي، ربما يعادله ما كتبه باتريك بوكانان السياسي والمفكر الأميركي، في كتابه الخطير المعنون «موت الغرب»، ووجه الخطورة هنا ألا يتحدث عن موت بيولوجي، بقدر كلامه عن الموت الأخلاقي، والديموغرافي... ماذا يعني ذلك؟
أما الديموغرافي فأمره على الفهم يسير، إذ يعني النقص السكاني، وهو أمر تجده واضحاً بشكل غير مسبوق في أوروبا، إذ إن معدل المواليد عند المرأة الأوروبية هو طفل واحد لكل امرأة، علماً بأن الحاجة لتعويض الوفيات من الأوروبيين المعاصرين هي طفلان لكل امرأة، وباختصار غير مخل، فإن سكان أوروبا البالغ عددهم اليوم نحو 741 مليون نسمة سيتقلصون إلى 207 ملايين في نهاية القرن الحادي والعشرين.
هل من سبب لتلك الكارثة؟
هنا يظهر الحديث الفلسفي على السطح، بمعنى أن الأنانية الفردية هي التي ابتدعت أشكالاً استهلاكية للحياة البشرية، فعوضاً عن الالتزام بالزواج والإنجاب وتحمل المسؤوليات، بات نموذج المساكنة بغير إنجاب هو السائد، مع ما فيه من تحلل أخلاقي ومعاندة للإرادة الربانية الساعية للنمو والخلافة في الأرض.
الجانب الآخر من الموت الأخلاقي يتضح جلياً عبر الأنساق الأخلاقية المهترئة، وانحسار الأعراق والتقاليد الدينية والإيمانية، تلك التي كانت في أوقات ماضية سداً وحداً في مواجهة منع الحمل والإجهاض والعلاقات الجنسية خارج إطار المؤسسة الزوجية، إضافة إلى تبرير، لا بل تشجيع، العلاقات الشاذة المنحرفة بين أبناء الجنس الواحد.
بعض الأرقام من الداخل الأميركي حقاً مفزعة، فبحسب بوكانان، فإن نسبة الأطفال غير الشرعيين في الداخل الأميركي تبلغ 25 في المائة من عدد إجمالي الأطفال هناك، فيما يعيش ثلث أطفال أميركا في منازل دون أحد الأبوين، وقد بلغت حالات الانتحار بين المراهقين ثلاثة أضعاف ما كانت عليه عام 1960.
عطفاً على ذلك، يمكنك أن تضيف صعود التيارات اليمينية التي تحرف الرؤى المسيحية تحديداً، تلك التي جرى اختراق بعض مؤمنيها من قبل التيارات المتصهينة، بالإضافة إلى عودة علامات العنصرية وكراهية السود.
والثابت أنه فيما يشتد عود الحضارات السلافية، وفي المقدمة منها الأرثوذكسية الشرقية، يكاد ينفرط عقد الحضارات الأرسطية الغربية، ويقف أحفاد كونفوشيوس بتأنٍ وتؤدةٍ بالغينٍ انتظاراً لما ستسفر عنه الصراعات الحضارية، منتظرين لحظة استعلان حضارتهم.
الحضارة الغربية في مأزق، والسؤال قبل الانصراف: هل لدى جموع المفكرين هنالك من نوايا صادقة لنقد ذاتي ينقذ الجميع من القارعة؟