مينا العريبي
صحافية عراقية-بريطانية، رئيسة تحرير صحيفة «ذا ناشونال» مقرها أبوظبي. عملت سابقاً مساعدة لرئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط»، وقبلها كانت مديرة مكتب الصحيفة في واشنطن. اختارها «منتدى الاقتصاد العالمي» ضمن القيادات العالمية الشابة، وتكتب عمود رأي في مجلة «فورين بوليسي».
TT

أولويات الحكومة العراقية الجديدة... وفرصة لرسم المستقبل

حكومة جديدة. فرصة جديدة. هذا ما يتمناه الكثير من العراقيين على الرغم من المصاعب التي تواجه البلاد. لا بد لنا أن نشعر ببصيص أمل بإحداث تغييرات مع الإعلان عن الرئيس الجديد لجمهورية العراق برهم صالح ورئيس الوزراء المكلف عادل عبد المهدي. وبالطبع هناك عراقيون يقولون إن الوجوه تتغير ولكن الواقع لا يتغير. ومن الصعب إلقاء اللوم عليهم بعد الذي عانوه خلال السنوات والعقود الماضية. فعلى المسؤولين الجدد أن يبرهنوا جديتهم في خدمة الشعب وبالتزامهم بالقسم الذي أدوه عند توليهم المقاعد البرلمانية والمناصب الرسمية.
لا شك أن بشخص برهم صالح، المعروف بثقافته العالية ومطالبته بإعادة الهيبة إلى الدولة، هناك فرصة لتقوية رئاسة الدولة. كما أن إعلان عادل عبد المهدي بأنه «مستقل» ومنفتح على العمل مع جميع الأطراف يوحي بإمكانية العمل الجدي لتشكيل حكومة سلمية. بالطبع هذان الشخصان مع الاحترام لهما يعملان ضمن نظام عانى من الفساد والانقسامات والمحاصصة والجريمة المنظمة، ناهيك عن نفوذ دول لديها أطماع في العراق.
ولكن لا يمكن أن يتغير هذا الحال من دون شخصيات مستعدة لمواجهة التحديات والمخاطرة بمصالح أحزابها مقابل المصلحة العامة. لا بد هنا من الاعتراف بجهود رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته حيدر العبادي الذي تسلم منصبه والبلد على حافة الهاوية. وعلى الرغم من بعض إخفاقات الحكومة السابقة، سعى العبادي إلى مناهضة السياسات الطائفية. وكان عليه أن يوازن بين ضرورة دحر «داعش» وإرهابه وبين كبح جماح قوة الحشد الشعبي المتنامية. واليوم يسلم العبادي البلاد وهي بحال أفضل مما تسلمها من سلفه نوري المالكي.
الـسابيع المقبلة ستشهد اختبار تشكيل الحكومة – هل ستكون على غرار خلفيات صالح وعبد المهدي وسطية ومقبولة بشكل واسع؟ ـم ستحتم الحسابات السياسية اختيار شخصيات مثيرة للجدل وتخدم مصالحها الحزبية؟ تشكيلة الحكومة وقدرتها على تخطي الاحتقانات السياسية من أجل تنفيذ برنامج وطني جامع ستكون أساسية لمساعدة العراق على الخروج من دوامة الأزمات المستمرة. هناك اختلاف واضح بين الأحزاب حول كيفية تشكيل الحكومة واختيار الشخصيات المناسبة لشغل المناصب الوزارية. ولكن الأهم من أسماء تلك الشخصيات هي برنامج الحكومة المقبلة وأولوياتها. لائحة المطالب طويلة ولكن هناك ست أولويات يجب أن تنتبه الحكومة الجديدة لها:
الأولوية الأهم والأبرز تبقى في تزويد الأمن والأمان للشعب العراقي. خلال الساعات الـ48 الماضية، انفجرت عبوات ناسفة في 3 مناطق عراقية بينما تم الإعلان عن مقتل ناشطة عراقية في البصرة، لتصبح سادس امرأة بارزة تغتال في البلاد منذ 4 أسابيع. وتزويد الأمن يأتي من خلال الاستمرار في بناء القوات المسلحة العراقية وإصلاحها، بالإضافة إلى حصر السلاح بيد الدولة.
الأولوية الثانية المرتبطة بالأولى وهي تأمين حياة كريمة للشعب العراقي، وخاصة في ما يخص الخدمات الأساسية. النهوض بمجالات التعليم والصحة أساسي لإحراز أي تقدم ملموس. من الصعب التصديق بأن الدولة المنتجة لما يقارب من 4 ملايين برميل من النفط يومياً ما زالت تعاني من شحة الكهرباء والمياه الصالحة للشرب. ولا يوجد أي مبرر لهذه المعاناة التي أدت أخيراً إلى إصابة 100 ألف من سكان البصرة بالتسمم بسبب تلوث المياه. كما من الضرورة وضع آلية لمساعدة المستضعفين مثل الأيتام والأرامل وغيرهم. فبحسب آخر إحصائية موثوقة، هناك في العراق ما بين 800 ألف ومليون طفل فقد أحد أبويه. وغالبية هؤلاء يعيشون دون خط الفقر.
الأولوية الثالثة تعتمد على بناء اقتصاد سليم وجعل الثروة النفطية ركيزة لبناء اقتصاد ما - بعد النفط، بدلاً من جعله أساساً للفساد المستشري في البلد. الإصلاحات المالية ومحاربة الفساد ضرورة ملحة. وكل ذلك يجب أن يصب في صالح معالجة مستويات البطالة العالية في البلاد، خاصة بين الشباب والتي تصل إلى 30 في المائة في بعض المحافظات. كما أن الاقتصاد القوي ضروري لإعادة البنى التحتية الضرورية للبلاد.
هذه الأولويات الثلاثة أساسية لإعادة ثقة الشعب بالحكومة وبالدولة. علينا ألا ننسى أن انتخابات هذا العام شهدت أقل نسبة من المشاركة بين الناخبين، بنسبة 44.5 في المائة حسب أعلى التقديرات. ويجب إعادة الثقة بالسلطة وهو أمر لن يكون بالسهل بعد سنوات من الإخفاقات. وهنا ننتقل إلى الأولوية الرابعة وهي تقوية العقد الاجتماعي بين الشعب والدولة في العراق، بالإضافة إلى تقوية مؤسسات الدولة من جديد. والعمل على تعزيز المواطنة وجعلها جزءاً جوهرياً في هذه المعادلة، بعد أن حلت الطائفة والعشيرة والحزب والإثنية محل الهوية الوطنية.
أما الأولوية الخامسة فهي تقوية مؤسسات الدولة لضمان سيادة القانون في البلاد، وهذا يعتمد كله على الدستور. الدستور العراقي بحاجة ملحة إلى المراجعة وتعديل بنود أساسية فيه على رأسها تلك المتعلقة بكيفية إدارة النظام الفيدرالي. من دون دستور قوي، مرتكز على سيادة القانون وحماية القضاء، لن يكون بالإمكان محاربة الفساد المالي والسياسي ولا بناء ثقة المواطن بالدولة.
أما خارجياً، فعلى العراق أن يأخذ مكانه الطبيعي في وسطه العربي وعلى الساحة الدولية من خلال بناء علاقات إقليمية ودولية متوازنة. وهذه هي الأولوية السادسة. تقوية العلاقات الإقليمية وخاصة مع الدول العربية التي تبدو منفتحة على العراق بطريقة ملحوظة فرصة يجب ألا تضيع. اتصال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهد أبوظبي نائب القائد العام للقوات المسلحة الإماراتية الشيخ محمد بن زايد والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني وغيرهم من القادة العرب بكل من صالح وعبد المهدي فور اختيارهما لمنصبيهما مؤشر واضح على الدعم العربي للحكومة العراقية – عليها أن تتجاوب وبسرعة معها. ومع تزايد الضغوط على إيران، بما في ذلك فرض عقوبات أميركية جديدة الشهر المقبل، من المتوقع أن تسعى طهران لتوسيع تدخلاتها في العراق للاستفادة المادية والسياسية. وهنا سيكون على الحكومة العراقية أن تحمي مصالح العراق وتحرص على سيادته الكاملة.
إنها تحديات جسيمة ولكنها تمثل فرصة يمكن للقادة الجدد من خلالها أن يغيروا مسار تاريخ العراق ورسم مستقبله في حال أصغوا لنبض الشارع وسعوا لتحقيق طموحات الشعب العراقي.