د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

تطور التقنية المالية «فنتيك»

في التسعينات الميلادية من القرن الماضي، ومع نشأة الإنترنت وانتشاره عالمياً، بدأت ثورة تقنية غيرت الكثير من المفاهيم في المجالات التجارية والبنكية... وكما أثرت التقنية سابقاً في المجالات الصناعية، ابتداء من تحول الصناعات من حرف يدوية إلى مكاينات آلية إلى أنظمة الأتمتة، وانتهاء بالذكاء الاصطناعي، فإن تأثير التقنية على القطاع المالي كان تأثيراً ملموساً على السواد الأعظم من الناس.
كانت بداية التغيير مع تفعيل المؤسسات المالية والبنكية لأنظمة جديدة تتيح لعملائها إتمام معاملاتهم البنكية عن طريق الإنترنت، من حوالات مالية وسداد فواتير وغيرها. وعلى المستوى الاستثماري، فقد أضافت التقنية قوة جديدة لأسواق الأسهم العالمية، حتى أصبح بإمكان أي فرد الوصول إلى سوق الأسهم وإتمام عمليات البيع والشراء بنفسه عن طريق الشبكة العنكبوتية. ولا شك أن هذه التقنية ساعدت في نمو أسواق الأسهم حول العالم بدخول سيولة لم تكن لتدخل هذه الأسواق لولا تسهيل التقنية لذلك. أما المتداولون القدامى في سوق الأسهم فيدركون الإضافة التي قدمتها التقنية في هذا المجال، سواء على مستوى سرعة إتمام عمليات الشراء، أو حتى على مستوى جودة الخدمة المقدمة من المؤسسات المالية.
المرحلة الثانية من تطور التقنية المالية كانت في منتصف العقد الماضي، وتحديداً مع ثورة الهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي، حيث انتقلت هذه التقنية من شاشات الحواسيب إلى شاشات الهواتف الذكية، وتسابقت المؤسسات المالية إلى تسهيل معاملاتها عن طريق تطبيقات الهواتف الذكية، وحتى يومنا هذا تتفاوت البنوك عن بعضها البعض بسهولة التعامل مع تطبيقاتها.
وتصاحبت ثورة الهواتف الذكية مع الأزمة المالية قبل عقد من السنين، حيث سببت الهزة التي تعرضت لها المؤسسات المالية إلى إعادة النظر في مستقبل القطاع المالي. ومع ضعف الفرص الاستثمارية التقليدية التي تسببت بها الأزمة المالية، برزت فرص جديدة للاستثمار في التقنية المالية، بتقديم خدمات مالية بطرق جديدة، لم ترتبط بالأزمة المالية. وسنة بعد سنة، زادت الاستثمارات في التقنية المالية خاصة في السنوات الأخيرة، حيث زادت الاستثمارات في التقنية المالية في عام 2016 عن 2015 بنسبة 67 في المائة.
وخلال هذه المدة بدأت مرحلة اختلف فيها المفهوم لهذه التقنية، حيث نشأت شركات تعتمد بشكل تام على التقنية المالية، أو ما يعرف حالياً بـ«فنتيك». وتمارس هذه الشركات نشاطات متعددة من خدمات الدفع، إلى القروض، إلى التأمين وحتى إدارة الثروات.
والجدير بالذكر أن نصيب الأسد من هذا التوسع كان للمؤسسات المالية التقليدية من بنوك وغيرها، وكان لها تأثير في هذا القطاع بطريقتين، الأولى أن هذه البنوك أسست شركات ناشئة شبه منفصلة تعنى بهذه التقنية وابتكاراتها بعيداً عن المخاطرة في البنوك ذاتها، وتضمن لها في الوقت نفسه المشاركة في مستقبل التقنية المالية حتى لا تصبح خارج المنافسة في المستقبل. والثانية، أن البنوك ساهمت في تمويل هذه الاستثمارات خاصة مع ضعف الاستثمارات التقليدية، والتي تأثرت بالكساد المصاحب للأزمة المالية.
والبنوك والشركات الناشئة هما طرفان من ضمن خمسة أطراف تعتمد عليها التقنية المالية. فالحكومات طرف أساسي في تشريع هذه الخدمات وضمان قانونيتها حتى يضمن العميل (وهو الطرف الرابع في هذه المنظومة) حقه. كما أن المطورين التقنيين يعدون حجر أساس في هذه العملية، فهم من يربطون الشركات الناشئة بالعملاء، ومن خلالهم تتمكن هذه التقنية من الارتقاء بخدماتها.
إن للتقنية المالية أبعادا متعددة، يضيف لها الإبداع البشري الكثير... وهي الآن طرف ثابت في القطاع المالي. والشراكة بين القطاعين التقني والمالي قد ينتج عنه الكثير من الحلول التي تسهل المعاملات المالية حول العالم. والمستفيد الأكبر من هذه التطورات هو العميل على المستوى الأول، والحكومات على المستوى الثاني. وكما أن شركة «أبل» أطلقت خدمة «آبل باي» للدفع عن طريق الهاتف الذكي، فإن المستخدمين في المملكة العربية السعودية قد يستفيدون من هذه الخدمة عن طريق الشبكة السعودية للمدفوعات «مدى»، ليتم بهذه الشراكة تسهيل وتطوير إحدى أكثر العمليات التي تتم في القطاع المالي، وهي مدفوعات قطاع التجزئة. هذه المدفوعات نفسها هي أقل العمليات التي يمكن مراقبتها وتدقيقها، وذلك لأن الكثير منها يتم عن طريق النقد خارج المنظومة المالية (وهنا تتضح إحدى الفوائد العائدة على الحكومات).
إن مستقبل التقنية المالي يبدو مشرقا في الوقت الحالي، وينبئ بتطورات أكثر من الموجودة حاليا بكثير... والتنافس في تطويره يأتي من جميع أطراف منظومته، والنجاح فيه يقدم خدمات للمستهلكين لم تكن ممكنة في السابق ومتاحة لهم حاليا، مثل أن تغنيهم عن البطاقات الائتمانية، وعن القروض ذات الفوائد المرتفعة.