سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

كرامة سعيد فريحة

كان الرئيس السادات وحيداً بين أعضاء مجلس قيادة الثورة الاثني عشر، في الاهتمام بالصحافة، وفي الاقتراب منها، وفي الانخراط في نشاطها المهني؛ بل وفي العمل بها منذ البدايات المبكرة في حياته. وقد جاء عليه وقت كان يكتب فيه مقالات بانتظام في جريدة «الجمهورية»، التي أسستها ثورة يوليو (تموز) 1952 بعد قيامها بعدة أشهر، وعهدت إليه برئاسة تحريرها عام 1953، ومن قبل كان قد عمل مراجعاً صحافياً في مجلة «المصور»!
ويروي أحمد بهاء الدين في مذكراته، أنه عندما تولى رئاسة تحرير جريدة «الأهرام»، كان يفاجأ عند كل لقاء له مع السادات، بأنه يحذره من أسماء بعينها موجودة في «الديسك» المركزي في الجريدة، وأن أصحاب هذه الأسماء يمكن أن يمرروا أخباراً مُعينة من وراء ظهر رئيس التحرير، لأهداف لا تخفى على أحد وقتها!
وقد فعل السادات ذلك أكثر من مرة مع بهاء الدين، الذي لما ضايقه الأمر صارح الرئيس، فقال: «سيادة الرئيس، إن تحذيرك المتكرر لي من خطورة أشخاص بعينهم، في غرفة (الديسك) التي تجري فيها صياغة الأخبار وإعدادها للنشر، وكذلك إعداد كل الصفحات التي سيطالعها القارئ في اليوم التالي، لا يعني سوى شيئين؛ إما أني غافل عما يدور في الصحيفة، وهذا غير دقيق، وإما أني لا أفهم في عملي، وهذا غير صحيح، والشيئان خاطئان وليسا في محلهما!».
وقبل اغتياله ببضعة أشهر، كان السادات يكتب الصفحة الأخيرة من جريدة «مايو»، لسان حال الحزب الوطني الحاكم في ذلك الوقت، وكانت مقالته تحتل الصفحة كلها، وكانت تحت عنوان ثابت هو: «عرفت هؤلاء»، وكان يحكي فيها، كل أسبوع، عن شخصيات عرفها في مسيرته مع السياسة، وكان فنان الكاريكاتير مصطفى حسين، يجسد شخصية العدد في رسومات تُنشر معها، وكانت رسومات مبدعة، وناطقة، بقدر ما كانت المقالات ممتعة، وقد قيل إن موسى صبري هو الذي كان يكتبها... قيل، ولكن لا دليل!
وقد روى أنيس منصور، الذي كان أول رئيس تحرير لمجلة «أكتوبر»، التي صدرت في القاهرة 1976، بطلب من السادات، وبرعاية شخصية منه، أنه كان يريدها قريبة من مجلة «الحوادث» اللبنانية، فلقد كانت هذه المجلة تعجبه كثيراً، وكان وهو يراجع مع منصور بروفات «العدد زيرو»، يبدو شديد الإعجاب بـ«الحوادث»، ويرغب في أن يرى مجلة مصرية مثلها، أو قريبة منها على الأقل!
إنني، إذنْ، أتحدث عن رجل كان يتطلع إلى تجربة مجلة «الحوادث»، بحس صحافي أصيل، وليس بمجرد حس سياسي لديه كرئيس للدولة، وكان ذلك من جانبه بمثابة شهادة في حق المجلة اللبنانية الشهيرة كتجربة متكاملة - رد الله غيبتها - أكثر منها شهادة في حقها كمجلة كانت تطبع وتوزع في كل أسبوع، وكانت مؤثرة بقدر ما كانت منتشرة في لبنان وفي خارج لبنان!
ولم تكن تلك المجلة الشهيرة سوى جزء من مشهد عام متدفق، كانت الصحافة اللبنانية كلها تمثله، وكانت دار «الصياد» بمطبوعاتها المختلفة، والمتنوعة، والجذابة، من صحيفة «الأنوار»، إلى مجلة «الصياد»، إلى مجلة «الشبكة»، إلى غيرها من مطبوعات الدار، ركناً قوياً في مشهد صحافي لبناني، كان يميز بيروت، وكانت بيروت تتميز به، ولم يكن من المتخيل أن يأتي يوم، تفرط فيه العاصمة اللبنانية في ملمح من ملامح المشهد الذي يميزها على كثير من العواصم، بهذه السهولة التي بدت هذا الأسبوع، في قرار توقف الدار عن التنفس!
لقد قرأت عبارات مؤلمة لرفيق خوري، رئيس تحرير «الأنوار»، يقول فيها من خلال صحيفتنا هذه، إن توقف صحيفته عن التغريد في كل صباح، مرتبط بتاريخ ينتهي! فما أقساها من عبارة تصدر عن رئيس تحرير جريدة، كانت كأنها الرغيف الطازج، الذي لا يستطيع قارئها أن يستقبل نهاره إلا إذا كان نصيبه منها في يده، وعلى درجة من الطزاجة عرفها القارئ واعتاد على مذاقها، في فمه وفي عقله بالسواء!
وإذا كان رفيق خوري يعود ليقول في تقرير صحافي ممتاز، كتبته زميلتنا الأستاذة سوسن الأبطح من بيروت، على الصفحة السادسة من «الشرق الأوسط»، صباح السبت، إن «أشياء كثيرة انتهت في لبنان، منها السياسة، والشعر، والمسرح، والاقتصاد»، إذا كان خوري يقول بهذا، فإننا نصدقه بطبيعة الحال ونشاطره أحزانه، ثم لا نوافقه على منطقه في الحديث عن دوافع إغلاق الدار، فنهاية الشعر، والمسرح، والسياسة، والاقتصاد، في لبنان، لا تعني بالضرورة ولا تستتبع نهاية الصحافة؛ بل تعني وتستتبع بقاءها؛ خصوصاً إذا كانت صحافة تتمتع بالتاريخ الذي تتمتع به دار «الصياد» بمطبوعاتها الكبيرة!
إن بقاء الصحافة، مع قدر من الحرية المسؤولة التي عرفتها صحافة لبنان في كثير من مراحل تاريخها المعاصر، هو الكفيل وحده بإعادة الشعر، والاقتصاد، والسياسة، ثم المسرح في لبنان، إلى ما كانوا عليه، وأحسن!
وبالمنطق نفسه، لا بد أن يتوجه الحديث إلى الأستاذة إلهام فريحة، ابنة مؤسس الدار وصاحبها سعيد فريحة، التي قالت في التقرير ذاته، وكأنها تضع جملة الختام في قصة طويلة: «أدينا قسطنا للعلا وللوطن، وحان الوقت للتوقف حفاظاً على كرامة سعيد فريحة!».
إنني أستطيع أن أتصور مدى الوجع الذي أحست به إلهام فريحة، وهي تغالب دموعها عند النطق بهذه العبارة، ولكني أستطيع أن أقول في الوقت نفسه، وبملء الفم، إن كرامة فريحة هي في الإبقاء على داره، لا في إقفالها، ثم أستطيع أن أقول إن الإبقاء عليها بكافة مطبوعاتها إذا كان متعذراً، في ظل أزمة مالية تأخذ بخناق كثير من الصحف في أرجاء متفرقة من عالمنا العربي، وليس في لبنان وحده، فليس أقل من الاحتفاظ بمطبوعة واحدة ترفع ذكرى الرجل، وتحمل رائحة المكان، وتحفظ عهد التاريخ، وتنقل مذاق لبنان الذي ظلت الدار تنقله، منذ خرجت إلى النور هي واستقلال لبنان في عام واحد!
وأكاد بالطبع أسمع همس الابنة وهي تقول ما معناه، إن العين بصيرة، وإن اليد قصيرة، وإن مَنْ يده في الماء، ليس كمن يده في النار... إلى آخره. أكاد أسمع ذلك منها، وأقدره، ثم أتساءل عن موقع رجال أعمال لبنان، ورجال الأعمال العرب، من محنة دار «الصياد»، وغير دار «الصياد»، من المؤسسات الإعلامية العربية التي تموت واقفة. إن لأصحاب الأعمال دوراً في مجتمعهم، والدور الاجتماعي الذي لا غنى عنه لرأس المال في مجتمعه، ليس من الضروري أن يكون في بناء مدرسة، ولا في تشييد مستشفى، ولا حتى في السعي بأعمال الخير بين الناس، الدور الحقيقي أوسع، وأشمل، وأبقى، وأقوى. الدور الحقيقي هو في المسارعة إلى إسعاف دار مثل «الصياد»، أو مجلة مثل «الحوادث»، أو جريدة مثل «السفير»، أو... أو... ففي إسعافها جميعاً طوق نجاة للكلمة المكتوبة بيننا!
الكلمة المكتوبة التي كانت هي في البدء، ولم يكن هناك شيء قبلها، والتي بها كان العقل العربي يتشكل على مدى تاريخه، ولا بديل عنها اليوم، ولا غداً، ففي البدء كانت الكلمة!