حسام عيتاني
كاتب وصحافي لبناني لديه عدد من المؤلفات؛ منها: «الفتوحات العربية في روايات المغلوبين»، إضافة إلى ترجمات ومساهمات في دوريات عربية مختلفة. انضم إلى كتّاب «الشرق الأوسط» في عام 2018.
TT

أي خطر يُهدد لبنان؟

لم يختفِ الخطر الإسرائيلي الذي يواجهه لبنان في يوم من الأيام، قبل انسحاب قوات الاحتلال من جنوبه سنة 2000 وبعده، قبل حرب يوليو (تموز) 2006 وبعدها، حتى اليوم. الخطر واقعي وحقيقي تحوك خيوطه معطيات عدة تبدأ من استمرار حال الحرب بين لبنان وبين إسرائيل ورفض هذه الأخيرة الاعتراف بمسؤوليتها عن مأساة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وتصل إلى سلاح «حزب الله» وتصدع الموقف اللبناني، في شقيه الرسمي والشعبي، حياله وحيال دوره، وصولاً إلى الانتهاكات الإسرائيلية اليومية للمجال الجوي والسيادة اللبنانيين.
لكل واحد من مكونات الخطر الإسرائيلي على لبنان تاريخ طويل ومعقد دفع اللبنانيون والفلسطينيون أثماناً باهظة له من دون أن تظهر في الأفق أي علامات على قرب حلّه. بيد أن الخطر الإسرائيلي، سواء جاء على شكل تهديدات بنيامين نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أو على شكل صور يوزعها المتحدث المتفذلك باسم جيش العدو، يكتسب وزناً مضاعفاً إذا نُظر إليه من خلال الوضع اللبناني الحالي.
يُفترض ألا تعني التهديدات الإسرائيلية الشيء الكثير إذا صدقت خطابات مسؤولي «حزب الله» عن الرعب الذي ينتاب إسرائيل كلما جاءت سيرة صواريخ الحزب وجهوزيته. كما لا ينبغي أن يشعر اللبنانيون بالقلق حيال أقوال مُعدّة للترويج ضمن المواجهة الأمنية - العسكرية الإسرائيلية - الإيرانية في سوريا وليس في لبنان ولا في إيران، وأن الأقوال هذه تهدف إلى تأكيد الرقابة الإسرائيلية على حركة الأسلحة الإيرانية بعد الإرباك الذي أصاب النشاط الإسرائيلي في الأجواء السورية جراء سقوط طائرة «إيل 20» الروسية. عليه، لا قيمة للتهديدات بذاتها. فما من جديد على برنامج تطوير «حزب الله» ترسانته وتحديثها، وهو أمر يعرفه الإسرائيليون منذ سنوات. وما من جديد أيضاً على التهويل الإسرائيلي بكل سلاح يملكه الخصوم حتى لو كان طائرات ورقية تُطلق من غزة، تهويل ينتمي إلى عالم السياسة والعلاقات العامة والدعاية وكسب المعركة الإعلامية، أكثر من انتمائه إلى مجال توازن القوى والأسلحة الاستراتيجية والخطط العسكرية.
ما يدعو إلى القلق على لبنان يكمن في مكان آخر. فهذا البلد يفقد يومياً أجزاء من مناعته التي نتخيل أن نسيجها الأقوى يشكله اتفاق مواطنيه على حدود دنيا مشتركة. يضاف إلى ذلك أن المعضلة الأعمق تتمثل في خسارة البلد وظيفته الإقليمية والدولية وإلى عجزه المستمر منذ نهاية الحرب الأهلية فيه عن صوغ وظيفة جديدة يؤديها في الاقتصاد والسياسة والثقافة والتعليم... وظيفته التي قرر سياسيو الاستقلال حصرها بتوفير خدمات متعددة للخارج والتعامل مع الداخل بصفته سوقاً لتصريف الواردات الاستهلاكية.
ما يعرفه اللبنانيون جيدا أن العالم الذي ازدهر فيه بلدهم في أواسط القرن العشرين لم يعد قائما. ولم يعد لبنان يملك أي ميزات تبرر عودة الاهتمام العربي والدولي السابق به. المقارنة بين البنية الاقتصادية والسياسية التي كانت قائمة في ستينات القرن الماضي وبين تلك القائمة اليوم تقدم خلاصة مزعجة: العديد من القطاعات اللبنانية التي كانت طليعية في المنطقة باتت متوفرة في أكثر الدول المجاورة من دون أن يتمكن اللبنانيون من ابتكار أوجه تميز جديدة يحتاجها بلدهم الذي حالت المصالح والصراعات السياسية دون بنائه أي وجه من وجوه الاقتصاد القائم على الإنتاج، ما جعل البلد رهينة لاقتصاد العقارات والمصارف وتقلباتها في ظل سوق صغيرة وهامشية.
لا شك في أن الخيارات التي تبناها اللبنانيون - إذا قبلنا أن الانتخابات التشريعية في مايو (أيار) الماضي تشكل المقياس الوحيد للرأي العام - لا تُبشر بخير كثير. العودة القوية لتيار «الممانعة» إلى مجلس النواب والفشل المستمر في تشكيل حكومة وحدة وطنية (ائتلافية) بين أطراف السلطة، يزيدان من انكشاف لبنان اقتصادياً وسياسياً وأمنياً. ليس فقط بمعنى تعرضه لعدوان إسرائيلي وشيك، بل بمعنى افتقاره إلى منظومة موحدة تستطيع الوقوف في وجه أي انهيار نقدي أو اضطراب اجتماعي ينجم عن الضائقة الشديدة التي يعيشها المواطنون أو أي أزمة على مستوى وطني حتى لو كانت على شكل كارثة طبيعية.
واللبنانيون، بهذا المعنى، مسؤولون عن القسم الأكبر من الخراب الذي أصاب بلدهم. مسؤولون بسبب انقساماتهم الطائفية المتوالد بعضها من رحم بعض، وبسبب خياراتهم الكبرى في إبقاء بلدهم من دون دولة قانون ومواطن وتفضيل سياسات الاحتراب الأهلي بأشكاله المختلفة على الحلول الوسط والتنازلات المؤلمة لكن الضرورية للحفاظ على ما يشبه الوطن. فيما يراقب كثر بأسى وعجز، التردي المشين لمستوى التخاطب بين كبار السياسيين والبذاءة التي باتت قانوناً لمتسلقي وسائل الإعلام.
على هذه الخلفية، سيكون كل تهديد، ومن أنّى أتى، مصدر خوف يغذيه خواء في السياسات والاستراتيجيات التي يتعين أن تحمي لبنان كبلد لجميع أبنائه يتحملون جميعاً مسؤولية الدفاع عنه ولا يمنحونها بالتراضي لقوى الأمر الواقع التي تقضم الدولة والمؤسسات.