سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

أعطني بياناتك!

أحسنت «الجامعة اللبنانية» صنعاً حين قررت أن تفتتح فرعاً تخصصياً جديداً هو «علم البيانات» وتحديداً في «كلية الإعلام». فقد أصيبت الصحافة في مقتل حين اعتمدت على الفقاعات الخبرية بدل المعلومات المفيدة، وقررت أن تخدع القارئ بالعناوين الجذابة بدل المضامين المبنية على المصدر العارف والمرجع الموثوق والرقم الدقيق. وقبل إغلاق «دار الصياد» العريقة بصحيفتها «الأنوار» ومجلاتها المتعددة، أسلمت جريدة «السفير» الروح، وكادت «النهار» تهوي، وما يستمر يبدو كأنه في النزع الأخير.
مشكلة الصحافة تتعدى محرريها إلى المجتمع الذي يسندها، والجامعات ومراكز الأبحاث التي لا تزال عاجزة عن تكوين كوادر خلّاقة وعلمية في آن واحد.
و«علم البيانات» ليس سوى فرع من مجموعة تخصصات يمكنها أن تبدّل المجتمعات وتغير الرؤية إلى الواقع، وتضخ الإعلام بمادة يمكنه أن يبني عليها. فالصحافي ليس مخترعاً ولا مبتكراً من فراغ، وإنما هو باحث شرس عما يوجد حوله، مما يستحق الكتابة عنه والإضاءة عليه.
وقديماً كان يقال إن الإنسان يُعرف مما يقرأ أو تبعاً لمن يعاشر. وهي جميعها مقولات ينتهي مفعولها أو يكاد بفعل تراكم المعلومات عن الفرد الواحد لا بل وتضخمها، حتى صارت تشمل ما يحلم به وما يخشى، لا بل ويمكن توقع ما سيفعل. وها هي الباحثة البريطانية ساندرا واشتر تخرج علينا من «معهد أوكسفورد للإنترنت» الذي يعنى بدرس البيانات ويستفيد من جمعها في شتى مجالات الحياة، معلنة عن محاضرة عنوانها «أرني بياناتك أقُلْ لك من أنت». وهي عبارة مختصرة، شديدة الدلالة عما يقوم به المعهد وغيره من مراكز أبحاث، تستطيع أن تعيد قراءة المجتمع بأدق تفاصيله من خلال المعلومات التي تُجمع آلياً، عبر التطبيقات ووسائل التواصل وحتى أجهزة اجتياز الركاب إلى المترو والحافلة أو استخدام بطاقة الائتمان. وكل حركة بات بالإمكان إحصاؤها، وإعادة استخدام المعلومة بمقارنتها بأخرى عن الشخص نفسه، في حال أريد الاستعلام عنه لارتكابه جريمة أو طلبه وظيفة. وربما الأهم مقارنة المعلومات بعضها ببعض لمعرفة إلى أين تذهب الحياة، وكيف يمكن تنظيمها في المستقبل.
فقد اكتشف البريطانيون مؤخراً أن العنصرية تضرب مؤسساتهم الاستشفائية ذات الـ750 ألف موظف، وأن الأقليات فرصهم في الترقي أقل من البيض، ورواتبهم أدنى بدءاً من الأطباء وحتى العاملين في النظافة، وذلك بفضل دراسة جديدة لبيانات المستشفيات. وكُشف أيضاً أن التعارف عبر الإنترنت بين الجنسين لا يزال يخضع بنسبة كبيرة -لم تكن متوقعة- إلى مبادرة الرجال في إظهار الود، وأن إمكانية استمرار العلاقة تبقى أكبر حين يبدأ التواصل بين امرأة مطلوبة ورجل هو الراغب والطالب.
دراسة أكثر خطورة، تتجاوز بريطانيا هذه المرة، وتعتمد على البيانات، تُظهر أن فضائح التأثير على الانتخابات الأميركية الأخيرة عبر وسائل التواصل لم تكن ظاهرة منعزلة؛ إذ إن عدد البلدان التي يحدث فيها التلاعب الرسمي في وسائل التواصل الاجتماعي ازداد بشكل كبير، من 28 إلى 48 دولة على مستوى العالم. ويأتي التزييف في غالب الأحيان من الأحزاب السياسية التي تنشر، بشكل مقصود، المعلومات الخاطئة والأخبار غير المرغوب فيها حول الانتخابات لاستقطاب المقترعين.
وإذا كانت الشكوى في العالم اليوم هي من كثرة ما يُجمع من بيانات، وكيف يمكن تنقية ما نحتاج إليه مما يتوجب إهماله فإن المشكلة في بلادنا هي أن الأرشفة (الصيغة الأقدم لجمع المعلومات) وحتى قبل الإنترنت، لم تكن مما تستسيغه النفوس أو تحبه الذائقة. وأن تطور التقنيات لم يغير كثيراً في الأمزجة ولم يغرِ أو يلقِ الحماس في النفوس.
وبمواجهة القدرة المتزايدة على جمع البيانات وتحليلها نحن أمام تحديات من أنواع مختلفة. فبياناتنا موجودة ونحن لا نعبأ بأن تكون في أيدي أيٍّ كان. وبينما قررت أوروبا حماية مواطنيها بقوانين فرضتها على الشركات الكبرى تطبقها أو تحتال عليها، نبقى نحن كمواطنين في انكشاف تام أمام كل من يحلو له أن يجمع أسرار حياتنا أو يعبث بخصوصياتنا. وثمة خبر يقول إنه بعد الاختراق الأخير الذي تعرض له «فيسبوك» فإن بيانات دخول الواحد منا على «فيسبوك» تُباع من قبل القراصنة في السوق السوداء، بنحو دولارين فقط، وبطاقة الائتمان بأقل من 14 دولاراً، أما مجموعة المعلومات التي تشكّل هوية الشخص الواحد فيمكن أن يصل سعرها إلى الألف.
ونتعرض كبقية أمم الأرض لهذا الوجه المظلم الذي تُستغل به أرقامنا وأسرارنا ومفاتيح حياتنا، ولا نتمكن في الوقت نفسه من الاستفادة من إيجابيات أن تكون هذه المعلومات متوفرة لدى مؤسسة وطنية أو حكومة تسعى لتحسين أنماط معاشنا، أو ترفع مستوى اقتصادنا أو على الأقل تدرس علمياً سلوكياتنا.
فالغد ليس لمن يمتلك البيانات فقط بل لمن يجيد هندستها وتنقية ما يحتاج إليه منها، وإقامة الدراسات عليها ومن ثم توظيفها واستخلاص النتائج. وهو توظيف قد يكون خيّراً أو شريراً. وأن لا تعرف سيجعلك عرضة لاستغلال وعبودية من نوع جديد، لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من قبل.