جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

إيطاليا وأوحال الماضي الاستعماري

الزمن أشرس عدو للأسرار يفتك بها كما تفتك عوامل التعرية المناخية بالقلاع والحصون. إذ يظل يتربص بأسوارها، وهي غافلة، من كل ناحية مقترباً شيئاً فشيئاً مضيّقاً عليها حصاره حتى يتمكن منها أخيراً فتنكسر مغالق أبوابها الصدئة وتظهر الحقائق للناس عارية إلا من قدرتها على تصحيح الأكاذيب وإعادة وضع عجلات قطار التاريخ في مسارها الذي حُرّفت عنه عمداً أعواماً طويلة.
بعد نكران دام لأكثر من ستين عاماً، أقدم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الأسابيع القليلة الماضية على خرق «التابو» المضروب حول ما قام به جيش الاحتلال الفرنسي من فظائع وتعذيب وقتل أثناء حرب تحرير الجزائر، وذلك بكشفه واعترافه بما ظل مخفياً ومعتذراً رسمياً على قيام الجيش عام 1957 بخطف وتعذيب وقتل مواطن فرنسي كان مستوطناً في الجزائر ويعمل أستاذاً لمادة الرياضيات بجامعتها بتهمة تأييده لجبهة التحرير الجزائرية في حربها من أجل نيل الجزائر لاستقلالها.
فرنسية الضحية لم تقف حاجزاً يمنع أبناء جلدته من الفرنسيين من اختطافه وتعذيبه وقتله ثم إنكارهم لفعلتهم ورفض الاعتراف بجريمتهم طيلة ستة عقود زمنية.
وكما هو متوقع في بلد ظل يصر بحدة لأعوام مديدة على رفض فتح أبواب أرشيفه الاستعماري، هرباً من مواجهة ماضيه، تفاوتت ردود الفعل في الداخل على تصرف ماكرون بين مؤيد ومعارض. خارج فرنسا كانت ردود الفعل في معظمها مرحّبة ومؤيدة بشكل ملحوظ.
مواجهة الماضي الاستعماري في أوروبا صار الآن، بحق وحقيق، عبء الرجل الأبيض. ولا مفر أمام أي أمة استعمارية من ضرورة مواجهة ماضيها إن أرادت، إنسانياً وتاريخياً، تخليص ضميرها من ربقة عقدة الشعور الجمعي بالذنب.
في العاصمة البرتغالية لشبونة تجري وقائع معركة اشتعلت منذ شهور مضت حول الموقف من الماضي الاستعماري، وكانت شرارتها اختلافاً تسبب به تعهد ببناء متحف جديد بالمدينة لتمجيد تاريخ البرتغال الاستعماري تحول إلى نقاش حاد حول الهُوية الوطنية البرتغالية وسؤال حول الذنب الجمعي. تركز الخلاف حول ما يعرف باسم عصر الكشوفات الذي بدأ في القرن الخامس عشر وقاد مرحلة التوسع البرتغالي في العالم واعتبرت تلك الفترة بأنها ذروة التاريخ البرتغالي إلا أن المشروع يواجه معارضة متزايدة بسبب ما طرح من أسئلة طالت الجرائم المرتكبة من قبل البرتغاليين في تلك الفترة. في شهر أبريل (نيسان) الماضي قام 100 أستاذ أكاديمي من البرتغال وخارجها بنشر رسالة مفتوحة في صحيفة «الاكسبرس الأسبوعية» منتقدين الاسم المطروح على اعتبار أنه «عفّى عليه الزمن وتعبير غير صحيح يمتلئ بمعانٍ عديدة غير صحيحة». الرسالة فتحت الأبواب على مصارعها لنقاش علني في الهواء الطلق امتد في كافة وسائل الإعلام بين مؤيد ومعارض. المعارضون له يطالبون بتحويل الأموال المخصصة للمتحف الاستعماري لبناء نصب يخلد ضحايا العبودية لأن البرتغال في نظرهم كانت أحد أهم البلدان في تجارة نقل العبيد عبر الأطلسي. وتشير الإحصائيات إلى أن المراكب البرتغالية قامت بنقل أكثر من 12 مليون أفريقي تقريباً. البرتغال كبلد كذلك ظلت حريصة على الادعاء بأنها كانت «بلداً استعمارياً طيباً» مقارنة بغيرها من البلدان الأوروبية الاستعمارية، وهو ادعاء تدحضه الأدلة التاريخية. لكن رب ضارة نافعة، ذلك إن مشروع المتحف فتح باب النقاش ليواجه البرتغاليون ماضيهم الاستعماري على أوسع نطاق.
في إيطاليا التي احتلت ليبيا وإريتريا والصومال وإثيوبيا، ما زال الإيطاليون إلى يومنا هذا مصرّين على دس رؤوسهم في الرمال كالنعام متهربين من مواجهة ماضيهم الاستعماري. ومثل البرتغال، يدّعي الإيطاليون أنهم (Brava Gente) أناس طيبون لا يقارنون بغيرهم من الشعوب المستعمرة الأخرى.
الحقائق والأدلة التي كشفها المؤرخون عبر الزمن تؤكد وجود نوعين فقط من الاستعمار: سيئ وأسوأ. لذلك فالاستعمار الإيطالي لم يكن أقل وحشية من غيره تشهد على ذلك الفظائع التي ارتكبها الجيش الإيطالي المستعمر في ليبيا وبلدان إريتريا والصومال وإثيوبيا. وعلى سبيل المثال لا الحصر، وبغرض القضاء على حركة المقاومة الليبية التي كان يقودها شيخ المجاهدين عمر المختار، قام الإيطاليون بترحيل سكان مناطق الجبل الأخضر قسراً ووضعهم في معتقلات جماعية في عراء الصحراء في منطقتي العقيلة والبريقة، حيث مات الآلاف منهم من جراء تعرضهم للجوع والمرض والأوبئة، وهو فعل موثق تاريخياً لا يمكن إنكاره.
وفي ظل الوضع السياسي الحالي الذي يقوده ائتلاف شعبوي يميني وصل إلى السلطة معتلياً موجة الهجرة، فانني أعتقد أن الوقت الحالي ليس الأنسب سياسياً لإيطاليا لكي تواجه ماضيها الاستعماري، وتفتح أبواب خزائن أرشيفها الاستعماري أمام الدارسين والباحثين بغرض تحقيقه ونشره ليكون متاحاً لكل من يود الاطلاع على ما احتواه. لكنني واثق أن ما حدث في فرنسا مؤخراً وما يحدث في البلدان المجاورة سوف يقنع الإيطاليين في المستقبل القريب بعدم جدوى الاستمرار في تبني سياسة تسير في اتجاه معاكس للواقع والتاريخ، وأن الطريق الوحيدة المتاحة للخروج أمامهم من جُب الماضي الاستعماري المظلم لتخليص ضميرهم الجمعي من عقدة الذنب لا تكون إلا بمواجهة ذلك الماضي وجهاً لوجه وبشجاعة لا أراها تنقصهم.