هال براندز
كاتب رأي من خدمة «بلومبيرغ» وأستاذ في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة «جونز هوبكنز» الأميركية
TT

أميركا بين اليسار التقدمي واليمين القومي

عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية، يقدم عهد الرئيس دونالد ترمب قدره من الفرص والمخاطر للحزب الديمقراطي. وتكمن الفرصة في حقيقة مفادها أن دبلوماسية الرئيس ترمب قد منحت الديمقراطيين المساحة كي يعتبروا أنفسهم أكثر الفئات المسؤولة عن، أو أمناء، الأمن القومي الأميركي. وتكمن المخاطر في احتمال أن يحاول الحزب الديمقراطي أن يتفوق على نموذج الرئيس ترمب في الإدارة على صعيد الشؤون العالمية؛ الأمر الذي يفضي إلى وقوع أضرار دائمة في تلك العملية.
وبات السيناريو الأخير، ومما يؤسف له، يلوح في أفق الأحداث خلال هذه الأيام. فلقد تقدمت مذكرتان من مذكرات السياسة الخارجية بنقد لاذع وقاسٍ ليس موجهاً ضد شخص الرئيس، بل منصباً على التقليد الأوسع نطاقاً والمتمثل في التفاعل الأميركي العالمي في دعم النظام العالمي السليم.
وكتب بيتر بينارت لمجلة «ذي أتلانتيك» يقول، إن السياسة الخارجية للولايات المتحدة قد لحق بها الوهن، وأضعفت إثر ذلك الجمهورية الأميركية بأسرها، وإنه ينبغي على الأمة أن تتبنى موقفاً من التقشف العميق والحمائية واسعة المجال. وينبغي على الولايات المتحدة الانسحاب من غرب المحيط الهادي ومن أوروبا الشرقية، وحري بها أن تترك لكل من الصين وروسيا مجالات النفوذ التي يسعيان لتأمينها. كما ينبغي عليها أيضاً إقامة المزيد من الحواجز التجارية لأجل حماية الوظائف الأميركية. ومن شأن المبادرة الأولى أن تفسح الطريق للثانية، بمعنى: إطلاق العنان للصين تماماً في مواجهة تايوان من شأنه أن يُقنع الحكام في بكين بأن يمنحوا الولايات المتحدة فسحة من الوقت بشأن التجارة، أو هكذا يعتقد السيد بينارت.
وعرض دانيال بيسنر وصفة مماثلة في صحيفة «نيويورك تايمز» حين كتب يقول: التخلي عن الالتزام الحزبي المشترك بالنزعة العسكرية والهيمنة الأميركية التي ظلت سائدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، واعتماد مواقف أكثر تساهلاً وتراخياً إزاء التهديدات الجيوسياسية التي يفرضها لاعبون دوليون مؤثرون مثل الصين وروسيا، ومنع الشركات الأميركية من تعيين العمالة الرخيصة في خارج البلاد.
والمثقفون ليسوا بمفردهم في محاولة تأييد ودفع الشخصيات الديمقراطية في هذا المسار. فلقد وجهت ألكسندريا أوكاسيو كورتيز، الواجهة الجديدة للتمرد التقدمي، انتقادات شديدة للتكاليف «الباهظة للغاية» للسياسات الخارجية الأميركية. وهي تنتقد صراحة «ديمقراطيي الشركات» الذين يبدو وأنهم يجدون الأموال الكافية لتمويل برنامج المقاتلة النفاثة الجديدة بقيمة 1.1 تريليون دولار؛ حتى يتسنى للحكومة الأميركية مواصلة ارتكاب الأعمال العدائية على المسرح العالمي، وإعادة خوض «الحرب الباردة» الجديدة بأسلحة لا قبل لأحد بها. وينبغي على الولايات المتحدة، عوضاً عن ذلك، اعتماد «الاقتصاد السلمي» الذي يرتكز على أسس التراجع عن التزامات الولايات المتحدة المعلنة في الخارج من أجل تمويل «الديمقراطية الاشتراكية» في الداخل.
وعلى نحو مماثل، تشير استطلاعات الرأي إلى أن الديمقراطيين هم أقل احتمالاً من الجمهوريين أو المستقلين في دعم المحافظة على التفوق العسكري للولايات المتحدة الأميركية. وقبل أكثر من عامين بقليل، كان بيرني ساندرز قاب قوسين أو أدنى من هزيمة هيلاري كلينتون في الانتخابات التمهيدية لعام 2016 من خلال العمل على منصة كانت أقل حمائية، الشيء اليسير، من منصة دونالد ترمب.
وكان السيد ساندرز، بعد كل شيء، معارضاً شديداً للشراكة عبر المحيط الهادي تماماً كما كان دونالد ترمب.
والسبيل الوحيد لإنشاء الهوية الديمقراطية الجديدة والبنّاءة على صعيد السياسة الخارجية في عهد الرئيس ترمب، كما يعتقد عدد غير قليل من قادة الأحزاب والمثقفين التقدميين، هو تبني منهج الرئيس الأساسي في إدارة الشؤون العالمية.
ومن المؤكد معارضة التقدميين لهذا التوصيف، وهناك اختلافات لا تعد ولا تحصى بين برنامجهم الناشئ للسياسة الخارجية والأجندة الخاصة بإدارة الرئيس ترمب. واليسار الديمقراطي منشغل تماماً بقضية التغيرات المناخية على اعتبار أنها قضية أمن قومي، في حين أن الرئيس، وبكل تأكيد، ليس كذلك. ويؤيد التقدميون الاتفاق النووي مع إيران، ويفضلون التعددية على الأحادية، ويتساءلون في أغلب الأحيان عن أهمية القوة العسكرية الأميركية في تشكيل البيئة الدولية؛ في حين تتباعد، وربما تنفصل، رؤى الرئيس ترمب تماماً عن كل من هذه المواقف. ومن شأن قائمة الاختلافات أن تستمر إلى ما لا نهاية، لكن أوجه التشابه الأساسية يستحيل تجاهلها بحال.
بالنسبة للأفكار التي تشكل لُـب انتقادات السياسة الخارجية للرئيس دونالد ترمب، فهي نفسها الأفكار التي تشكل صميم الانتقادات التقدمية. فهم يتفقون على أن التفاعل العالمي العميق من النوع الذي مارسته الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية يسبب الأضرار بأكثر مما يعود بالنفع على الشعب الأميركي، وأن للولايات المتحدة ما تخشاه بأكثر مما تكسبه في الاقتصاد العالمي المفتوح، وأنه ليس لواشنطن مصالح حيوية حقيقية في الحفاظ على السلام ومنع العدوان في مناطق رئيسية مثل أوروبا الشرقية أو شرق آسيا. وأنه ينبغي على الولايات المتحدة أن تفعل القليل – والأقل بكثير مما تفعله – من أجل تعزيز التناغم والانسجام حول العالم. بل في واقع الأمر، وكما يقول المثقفون التقدميون الآن وبكل صراحة، أن الرئيس ترمب قد لمح إلى أنه يجب على واشنطن أن تتنحى جانباً في الوقت الذي يتدخل فيه فلاديمير بوتين عسكرياً في أوكرانيا، ويقيم منطقة عازلة من الدول المحصنة والتابعة في محيط أوروبا الشرقية.
ولا ينبغي لذلك أن يثير المزيد من الاستغراب. فإن نطاق الآراء ووجهات النظر المعنية بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة هو أقل من أن يشكل طيفاً على أن يكون مجالاً كاملاً، وكانت هناك منذ فترة طويلة رابطة ما بين اليسار التقدمي واليمين القومي. فخلال تسعينات القرن الماضي، شنّ كل من رالف نادر وبات بوكانان حرباً على العولمة، ودعا كل منهما الولايات المتحدة إلى الانسحاب الاستراتيجي مع نهاية حقبة الحرب الباردة. وقد اتخذا موقفهما هذا لأسباب مختلفة: إذ يساور اليمين القومي القلق العميق، تماماً كما هو اليوم، من أن التفاعل الأميركي العميق على الصعيد العالمي سوف يلحق الضرر بالسيادة الأميركية والهوية الوطنية للبلاد. في حين أن اليسار التقدمي يخشى، أيضاً كما هو اليوم، من أن سياسة التفاعل العالمي من شأنها أن تعزز من وضعية النخب الحاكمة على حساب المواطن الأميركي العادي. لكن انتهى بهم المطاف، بالنسبة لبعض القضايا والمسائل الأساسية في معرض نقدهم الموسع للنزعة الأممية الأميركية، للعودة إلى المكان نفسه الذي انطلقوا منه في بادئ الأمر.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»