د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

العربية... لا بد من وقفة حازمة

الأوروبيون يؤسسون يوماً قومياً عالمياً لحماية لغاتهم في الـ26 سبتمبر (أيلول) (European day of languages) من أجيال المهاجرين وخطر اللكنات عليها، ولهذا يشترطون إتقان اللغة من الوافدين إلى بلدانهم، سواء للعمل أو الدراسة، بينما العرب يتجاهلون الخطر الداهم من وجود الخدم والعاملين الأجانب الذين أغلبهم لا يجيد العربية، ويجالسون ويخالطون أبناءهم في بيوتهم، وهم يلحنون في اللغة التي تجاهل حمايتها العرب، وتكفَّل بها القرآن، فكان خير حافظ لها من الاندثار عبر السنين.
ولكن اليوم بعد أن بدأنا ننسلخ عن لغتنا، تحولت العربية إلى لغة استهلاكية تبعثرت فيها الكلمات في السوبر ماركت، بعد أن أغلقنا كثيراً من أسواقنا الأدبية التي كانت رافداً مهماً لها.
«أبجد هوز حطي كلمن» جملة عرفها الجميع صغاراً وكباراً... في البدء كانت اللغة، وذهب المفسرون في تفسيرها مذاهب كثيرة، فقال أبو جعفر النحاس عن الطبري: «إنها ترتيب للحروف العربية، قبل أن يُعرف التنقيط»، فالعربية لغة وَسِعت كتاب الله، كما وصفها شاعر النيل، تمتلك مزايا كثيرة، منها الاشتقاق للتجديد والتعريب، الذي بقي أزمة اللغويين بعد أن عجز بعضهم عن مواكبة حركة التعريب؛ فبقيت العلوم التطبيقية في جامعاتنا تُدرَّس باللغة الأجنبية، ولعله من المخجل أن إسرائيل تدرس العلوم باللغة العبرية، وعندما واجهت بعض المصطلحات أخذتها عن اللغة العربية، ناهيك بأسباب أخرى تدفع نحو التعريب، ومنها حجم استيعاب الطلاب للعلوم بغير لغتهم الأم.
وفي دراسة أجراها أحد العلماء عن قدرة الطلاب على استيعاب العلوم بغير لغتهم الأم، وُجد أن معلم المادة قد فهم ما بين 90 و95 في المائة مما يدرِّسه للطالب باللغة الأجنبية، وحين يشرح يفقد 10 في المائة، والطلاب في أحسن أحوالهم سيفهمون 70 في المائة مما تم شرحه، لتصبح النسبة 60 في المائة في أحسن الأحوال، وحتى لا يتكرر التعريب على شاكلة «الشاطر والمشطور»، كترجمة بديلة لكلمة «Sandwich»، على شاكلة الإبدال اللفظي، بدلاً من الاشتقاق، رغم أن العربية لغة حية ومتجددة، وليست عاجزة، مثل الإنجليزية التي تفتقر لكثير من القواعد، وتفتقر لبعض الألفاظ التي من الصعب إيجاد مصطلح مرادف لها في المعنى واللفظ، وأضرب مثلاً بكلمة «الله»، حيث عجزت اللغة الإنجليزية على إيجاد مصطلح يحمل الدلالة والمعنى ذاتهما، فكلمة «God» لا تصلح لكونها تُجمع على نحو «Gods» وتؤنث وتُذكَّر، وتعالى الله عن هذا التجديف.
العجز عن حماية اللغة العربية وإتقانها تسبب بظهور الدعوة إلى استخدام اللهجات المحكية والكتابة بها، وهو أمر خطير واغتراب لغوي سببه فكري أولاً قبل أن يكون جهلاً لغوياً، بل وصل الأمر إلى أن معلمي اللغة العربية في مدارسنا وجامعاتنا يدرِّسونها باللهجة المحكية، مما يدل على وجود قصور كبير عند الجميع شمل بعض معلمي هذه اللغة.
لقد تطرف بعض دعاة المحكية إلى استبدال حرف آخر بالحرف العربي، كما فعل الشاعر اللبناني سعيد عقل، حين دعا إلى استخدام الحرف الفينيقي لكتابة اللهجة المحكية. فاللهجات وإن تعددت وابتعد بعضها في مفرداته عن اللغة الأم، هي سند للغة العربية، كلهجة قريش مثلاً ولهجة هذيل، ولهجة كندة، بل إن اللهجات القديمة مثل الأمازيغية هي في الأصل لهجات عربية قديمة، ولعلَّ ما ذكره صاحب كتاب «سفر العرب الأمازيغ» الباحث اللغوي الليبي علي فهمي خشيم، فقال: «عندما كتبتُ (سفر عرب الأمازيغ) في سنة 1996، فأنا منطلق من مبدئي بأن ما يُسمى اللغة (وأنا أسميها اللهجة) الأمازيغية عبارة عن لهجة من اللهجات العروبية، مثلها مثل الكنعانية أو الأكادية، أو المصرية القديمة، أو العربية الجزيرية العدنانية» فيه رد شافٍ على مرضى المحكيات.
اللغة العربية لغة عظيمة تشرفت بكتاب الله: «وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربيّاً»، ولا بد للعرب من حماية لغتهم وعلى الفضائيات أن تتنبه لأولئك الذين يخلطون في لغتهم أثناء الحديث في لقاء يخص المواطن العربي، ويقحمونه في مفردات أجنبية، فلماذا لا يذهب هؤلاء للإذاعات الأجنبية ويتكلمون بلغاتها، لماذا التحدث بالإفرنجي والمتحدث في تلفزيون عربي؟