عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

ورقة من كتاب ثاتشر للتعامل مع بروكسل

في لحظة ثاتشرية لم نتعودها من رئيسة الوزراء تريزا ماي، اتخذت موقفاً متشدداً من الاتحاد الأوروبي: «لم أتعامل مع الاتحاد الأوروبي إلا بالاحترام، فيجب أن يعاملوا المملكة المتحدة بالمثل»، قالتها من 10 داوننغ ستريت، بلهجة صارمة وبلا ابتسامات. وأعادت الكرة إلى ملعب أوتوقراطية الاتحاد الأوروبي «التي لم تقدم مشروعاً بديلاً»، بعد رفضها الخطة البريطانية؛ مشروع تشيكرز الذي كان يعترض عليه البقائيون والخروجيون.
لكن تشدد بروكسل، وإهانة رئيسة الوزراء في مؤتمر سالزبورغ، أكسبها تعاطف المنتقدين والشعب. و«الخروج بلا اتفاقية تجارية أفضل من صفقة سيئة».. قالت ماي عن مشروع اتفاقية تحول دون توقيع بريطانيا عقود تجارة مع أطراف خارجية، واشتراط حرية تنقل المهاجرين الأوروبيين بلا تأشيرات؛ يعني فقدان السيادة الوطنية.
تناقض مع رغبة البريطانيين (بنسبة 52 في المائة، مقابل 48 في المائة) في استفتاء الاتحاد الأوروبي، والأخطر إبقاء أحد أقطار المملكة المتحدة، وهو آيرلندا الشمالية، داخل المنظومة الجمركية للاتحاد الأوروبي، فتتبع قوانينها، وتنتقل الحدود الجمركية بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا من الحدود بين الآيرلنديتين (الجنوبية والشمالية) إلى شواطئ شمال الجزيرة، ليصبح البحر الآيرلندي هو الحدود الجمركية بين الاتحاد الأوروبي وبقية أقطار المملكة المتحدة في الجزيرة البريطانية العظمى (ويلز، واسكتلندا، وإنجلترا). وقالت ماي: «لن أقبل تحت أي ظرف أن تكون هناك حدود تمزق أقطار المملكة، ولا أعتقد أن أي رئيس وزراء آخر يرضى بذلك».
الموقف القوي للزعيمة البريطانية بالطبع يرفع من شعبيتها، وكان المتوقع أن تؤيدها القوى السياسية الأخرى؛ أكبر تأييد جاءها من أكثر الخصوم السياسيين معارضة لها ولمشروعها؛ نايجل فاراج، الزعيم السابق لحزب استقلال المملكة المتحدة، ونائب البرلمان الأوروبي، شجب تصريحات الزعماء الأوروبيين المهينة، قائلاً إننا لا نقبل أن يعامل الاتحاد الأوروبي أي زعيم بريطاني بهذا الأسلوب. لكن بعض المعارضين، خصوصاً من التيار البليري لحزب العمال، ومن حزب الديمقراطيين الأحرار، أخذ موقف الشماتة، لكن مراجعة وسائل التواصل الاجتماعي واستطلاعات أولية تؤيد التشدد مع المفوضية الأوروبية.
الدروس المستخلصة من الموقف المتجمد والطريق المسدود الآن بين لندن وبروكسل يمكن تلخيصها في ثلاثة: الموقف الداخلي في بريطانيا، والخطأ في قراءة نيات المفوضية الأوروبية، وتوقيت إشهار الموقف البريطاني المتشدد.
بالنسبة للموقف الداخلي يمكن تلخيصه في القول الخالد: «الاتحاد قوة، والتفرق ضعف».
ففور ظهور نتائج استفتاء 2016، بتصويت الأغلبية بالخروج، لم تقبل قوى وتيارات تدعي الليبرالية والديمقراطية بالنتيجة، بل نظمت المسيرات في اليوم التالي تطالب بإعادة الاستفتاء.
هذه القوى الداخلية المعارضة كانت منظمة، ولديها المال والإمكانيات، وعملت بشتى الوسائل، بما فيها استغلال النظام القضائي لعكس نتيجة الاستفتاء، أو المطالبة باستفتاء جديد، تحت اسم جديد «تصويت الشعب».
ولم تكف هذه القوى عن العمل على عكس الإرادة الشعبية.
بالطبع، رأي المفاوض الأوروبي أن الانقسام الداخلي يضعف موقف نظيره البريطاني، وهو ما حدث بالفعل.
المفاوض البريطاني، سياسي منتخب، ومتمرس بتراث خمسة قرون من الصفقات التجارية والسياسية والدبلوماسية، يعرف أن الصفقات التجارية تعني الحلول الوسط؛ المفاوض الأوروبي موظف بيروقراطي ملتزم بلوائح جامدة لا تنازل فيها.
هنا يبرز الخطأ الثاني، وهو عدم دراسة الموقف والمزاج السائد في المفوضية الأوروبية.
الاتحاد الأوروبي مشروع آيديولوجي، هدفه خلق فيدرالية أوروبية تتشابه في بيروقراطيتها مع الاتحاد السوفياتي. وبينما في بريطانيا توضع السياسة في خدمة التجارة والاقتصاد، فإن المشروع الفيدرالي الأوروبي يضع الاقتصاد والتجارة وأدوات الحكم الأخرى في خدمة السياسة.
الفيدرالية الأوروبية هدفها النهائي إذابة الهوية الوطنية لمواطني الدولة القومية في الهوية الأوروبية، في تشابه مع الاستراتيجية السوفياتية، وإعادة الترتيب الديموغرافي بالهجرة الداخلية بين مواطني الجمهوريات السوفياتية؛ الاختلاف كان في تكتيك تنفيذ الاستراتيجية.
المفوضية الأوروبية وظفت التجارة والاقتصاد في خدمة السياسة.
تعمد تغيير نمط الإنتاج في البلدان الفقيرة، كبلدان المعسكر الشرقي السابق وجنوب أوروبا، فتنتقل الأيدي العاملة إلى البلدان الغنية، كألمانيا وبريطانيا والبلدان الإسكندنافية، ويشب الجيل الثاني «مواطنين أوروبيين».
بريطانيا كانت أقوى رابع اقتصاد في العالم (الخامس هذا العام)، واللغة الإنجليزية حلت محل الفرنسية، كلغة عالمية، منذ مطلع الستينات، كما أن القوانين الداخلية البريطانية في حماية المهاجر، وسهولة الالتفاف حولها، جعلت بريطانيا المقصد الأول للمهاجرين.
الرقم الرسمي لمواطني الاتحاد الأوروبي في بريطانيا يفوق ثلاثة ملايين، وربما مليون من غير المسجلين رسمياً.
تتلقى بلدانهم الأصلية مشاريع مدعومة من بروكسل؛ مشاريع غير إنتاجية لكنها للترفيه أو المراكز الفنية والثقافية، بينما تراجعت مراكز الإنتاج الزراعي والصناعي، حماية للمنتجين والمزارعين في البلدان الأكثر ثراءً. وباختفاء وسائل الإنتاج، ينتقل مواطنو البلدان الفقيرة إلى البلدان الغنية، كعمالة رخيصة. ولذا، فبلا حرية حركة المواطنين، تتراجع استراتيجية الاتحاد الأوروبي للتماسك الفيدرالي عن طريق إعادة التوزيع الجغرافي لخلق هوية المواطنة الأوروبية للأجيال القادمة؛ وهو يتناقض مع الصفقة التي تريدها بريطانيا.
بريطانيا دفعت لبروكسل 589 بليون (مليار) جنيه إسترليني منذ التحاقها بالسوق، ثم الاتحاد الأوروبي، وتمول 14 في المائة من ميزانية الاتحاد، إلى جانب تحويلات العمالة الأجنبية في بريطانيا إلى بلدانهم؛ خروج بريطانيا سيترك عجزاً كبيراً في ميزانية الاتحاد الأوروبي، سيقلل من بناء مشاريع تغيير أنماط الإنتاج، وهي جزء أساسي في استراتيجية الاتحاد في النقل الديموغرافي لمواطني البلدان الأقل ثراءً إلى البلدان الغنية.
كما لن تسمح المفوضية الأوروبية لبريطانيا بعقد صفقات تجارية مع بلدان خارج الاتحاد، بينما تبقى في الاتحاد الجمركي، مما يمنح المنتج البريطاني ميزة الحصول على مواد أولية من خارج الاتحاد تجعل المنتجات البريطانية أكثر منافسة لمثيلاتها الأوروبية.
باختصار، خسائر الاتحاد فادحة بخروج بريطانيا، الذي يعرقل المشروع الفيدرالي. وبينما يفاوض البريطانيون على صفقة تجارية، فإن هدف المفاوض الأوروبي هو منع بريطانيا من الخروج للأسباب الحقيقية أعلاه. أما مسألة الحدود التجارية مع شمال آيرلندا، فهي قضية وهمية افتعلها المفاوض الأوروبي للغرض نفسه.
أما الخطأ الأكبر، فكان توقيت اتخاذ موقف متشدد من المفوضية الأوروبية، مثلما أخبرني اللورد تيبيت (وكان وزيراً في حكومات ثاتشر) بأن رئيسة الوزراء كان يتعين عليها اتخاذ هذا الموقف المتشدد في الأسبوع التالي للاستفتاء عام 2016، قبل أن يفيق زعماء الاتحاد الأوروبي والمفوضية من صدمة تصويت الخروج. السؤال الأصعب اليوم: هل تنجح ماي بموقفها المتشدد في أن تجبر المجلس الأوروبي على تغيير موقفه، كما فعلت مارغريت ثاتشر منذ ثلاثة عقود؟