حسام عيتاني
كاتب وصحافي لبناني لديه عدد من المؤلفات؛ منها: «الفتوحات العربية في روايات المغلوبين»، إضافة إلى ترجمات ومساهمات في دوريات عربية مختلفة. انضم إلى كتّاب «الشرق الأوسط» في عام 2018.
TT

دولنا المتحالفة مع إيران

تعزز الغارات الإسرائيلية المتكررة على الأهداف والمواقع الإيرانية في سوريا؛ وآخرها استهداف مركز تقني في مدينة اللاذقية، ومطاردة إسرائيل الدائمة كل التحركات العسكرية الإيرانية، رواية محور الممانعة عن عمله الدائم للتصدي للاحتلال الإسرائيلي وعن حتمية المواجهة الكبرى معه التي ستكون خاتمتها هزيمة لا ريب فيها للكيان الغاصب واندحاره.
تقول الرواية إن الهجمات الإسرائيلية التي لا تتوقف إلا لتُستأنف أشد من السابق وأعتى، هي الدليل على أن إيران جادة، على عكس العرب، في مقارعة إسرائيل وفي إعداد العدة للحرب المقبلة، وإنها في سبيل ذلك تسلح حلفاءها في لبنان وسوريا والعراق. وتضيف أن من يتحدث عن الخطر الإيراني وتمدده في البلدان العربية يقف من حيث يدري أو لا يدري في الخندق الإسرائيلي بعدما أصبحت إيران هي قطب الرحى في مقاومة المشروع الإسرائيلي - الأميركي. ولا شك، بحسب هذا السرد، في أن كل النشاطات الإيرانية؛ بما فيها المشروع النووي بنسختيه العسكرية والمدنية والتدخل الذي تنكره طهران في شؤون الدول المجاورة وفرضها حكومة هنا ورئيساً هناك، ترمي كلها إلى الوصول لتوازن استراتيجي يخدم المعركة الأخيرة والحاسمة ضد الصهيونية.
ثم، وبحسب هذا المنطق، إن الإيرانيين جيران تاريخيون للعرب والعلاقة بين الطرفين شهدت فترات انفراج وتعاون مديدين؛ وإنْ شابها بعض الكدر والصعوبات بين الحين والآخر. والإيرانيون من أهل المنطقة وتاريخهم طويل هنا، فيما لا تستطيع إسرائيل قول الشيء ذاته؛ حيث ما زالت تفتح أبواب الهجرة اليهودية إليها في محاولة للتغلب على الخطر الديموغرافي الذي يشكله فلسطينيو الأراضي المحتلة في 1948 المتمسكون بثقافتهم وهويتهم وتراثهم، وقبل ذلك وبعده بالبقاء على أرضهم التاريخية.
يصور أصحاب هذه المواقف الصراع العربي - الإيراني كمنافسة على الزعامة الإقليمية، وأنه ذو طبيعة مذهبية ترتكز على كراهيات تعود إلى قرون مديدة على نحو يعوق كل تعاون بين الطرفين لكبح جماح العدو الإسرائيلي المشترك الذي يمعن في قضم الأرض الفلسطينية من خلال المستوطنات ويعمل على تصفية القضية العادلة التي تمر الأعوام عليها من دون أمل في حل قريب لها.
والحال أن هذه الآراء تتجاهل أن ثمة مبادراً إلى الهجوم والتمدد واستغلال الفراغ السياسي العربي، وأن الطرف المقابل لا يكاد يقوم بغير ردود فعل جزئية لا ترقى إلى مستوى المشروع الاستراتيجي الذي تُبشر إيران به، بغض النظر عن خلفياته القومية والمذهبية والتاريخية. كما أن السؤال الأبرز الذي يتعين طرحه في مثل ظروف منطقتنا: لنفترض أن الجانبين العربي والإيراني وضعا خلافاتهما جانباً، وتجاوز العرب حقيقة أن تفكك نظامهم الإقليمي يحول دون حشد الجهود اللازمة لخوض مواجهة دبلوماسية وسياسية أو عسكرية ضد إسرائيل، لأسباب تمتد من الانقسام الفلسطيني الداخلي إلى الأزمات المتلاحقة التي تعيشها المنطقة منذ عقود وانهيار أرضية الحد الأدنى من التضامن العربي... إذا وضعنا كل هذه المعطيات جانباً، فإن السؤال هو عن البديل الذي تحمله إيران إلى الشعوب العربية قبل الأنظمة والحكومات. هو سؤال جدي عن مضمون أي حكم أو نظام يريد أن يتحالف مع طهران في الظروف الحالية.
في الواقع لدينا ثلاثة نماذج قائمة في العراق وسوريا ولبنان، وتتشارك كلها في أزمات بنيوية عميقة؛ الأرجح أنها ستلازمها في المستقبل المنظور. الدول الثلاث هذه تتبنى سياسات تتراوح بين الموالاة الكاملة لطهران كما هي حالة نظام بشار الأسد، وبين المهادنة الاضطرارية حرصاً على السلم الأهلي كما هو الوضع في لبنان. في المقابل، تتلخص السياسة الإيرانية في الدول الثلاث في اللعب على الانقسامات وتقوية طرف على طرف والاستفادة من التناقضات المحلية وتصوير ذلك على أنه صميم المقاومة وزبدتها، في حين أن الهدف الفعلي هو تعزيز الموقع الاستراتيجي والتفاوضي مع الغرب.
ولا بد من القول إن الثمن الذي يدفعه العراق ولبنان وسوريا من انتقاص لسيادة الدولة، وتمزيق نسيج المجتمع، وفرز ملل ونحل متقاتلة متصارعة، عبر تعزيز الهويات الطائفية ما يستدعي استنفار الهويات الطائفية المقابلة، ستكون له آثار وخيمة على مستقبل هذه البلدان وعلى أجيالها الشابة التي ستقع أسيرة لمنطق الحروب الأهلية بحيث يبدو فيها القتال ضد إسرائيل حلماً بعيد المنال مؤجلاً إلى ما بعد القضاء على «العدو القريب».
استخدام الحاضر للشهادة على الغائب (وهنا الغائب هو المستقبل البعيد) يقول لنا إن النموذج الإيراني في الحكم وبعد أربعين عاماً من السلطة، لا يبدو قابلاً للتكرار في مجتمعات ودول ذات تركيبات طائفية واجتماعية أكثر تعقيداً وتعدداً من التركيبة الإيرانية. بل إن هذا النموذج الذي لم يفلح في تقديم فكرة واحدة جديدة أو مساهمة تحسب في الثقافة أو الإبداع أو العلوم، لا أفق له غير الاستبدال بالاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني أنظمة طائفية، مستترة أو سافرة لا فرق، لا غاية لها ولا أمل عندها غير الحديث عن التحرير من الاحتلال في الخارج وافتعال الاقتتال الأهلي في الداخل. وجلي أن ليس لدى إيران أي تصور لكيفية معالجة أوضاع هذه الدول في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، ولا يهمها مصير العطشى في البصرة ولا الغارقين في النفايات في لبنان، على سبيل المثال لا الحصر.
لذلك، قد يكون من المفيد رسم خط فاصل وواضح بين الصراع الإسرائيلي - الإيراني القائم على المنافسة على الهيمنة وجداول الأعمال الجيو - استراتيجية والسياسية الداخلية وتبرير بقاء هذه الحكومة وذاك النظام، وبين الحاجة الحقيقية لنصرة القضية الفلسطينية وتخليصها من المتسلقين على جراح شعبها.