د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

لا مفاجآت في الشرق الأوسط!

يقال إنه من كثرة المفاجآت في الشرق الأوسط، فإنه لم يعد هناك مجال لمفاجآت جديدة؛ ومع ذلك فإنه لا يمر مؤتمر أو ندوة أو تجمع عن المنطقة، إلا ويكون السؤال مطروحاً: ما هي المفاجأة الجديدة القادمة؟
عندما أمم الرئيس المصري جمال عبد الناصر قناة السويس، لم يصدق أحد أنه فعلها؛ لأن آخر التأميمات التي جرت قبلها فعلها مصدق في إيران بتأميم النفط، وكان الثمن هو نهاية حكمه. وعندما جاء الثمن بالعدوان الثلاثي على مصر، كانت المفاجأة أن المعتدين الثلاثة انسحبوا بتأثير من العرب والرأي العام الدولي والتهديدات السوفياتية والمعارضة الأميركية، والتي كان اجتماعها جميعاً على أمر هو المفاجأة.
في عام 1967، لم تكن المفاجأة في العدوان الإسرائيلي، وإنما في نتائج هذا العدوان الذي انتهى باحتلال واسع النطاق للجولان وسيناء والضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية. وكان الظن بعدها أن العرب لم يعد لهم لا حول ولا طول، ولكن المفاجأة جاءت في 1973 بالسلاح والنفط؛ ولم تكن تلك آخر المفاجآت، وإنما تبعتها مفاجأة ذهاب السادات إلى القدس، وعقده معاهدة سلام مع إسرائيل.
وفي أوقات كثيرة، جرت ثورات وانقلابات وحروب أهلية وإقليمية من أنواع شتى، ولكن المجتمع الأكاديمي في العالم كله فوجئ بما سمي الربيع العربي. ولفترة جرت محاكمات داخل الجامعات ومراكز البحوث السياسية والاستراتيجية: لماذا فشل الجميع من الخبراء في التنبؤ بما حدث؟ كان هناك بعض من الغش أحياناً عندما بدأ الكتّاب والباحثون يبحثون في دفاترهم القديمة، لكي يعثروا على جملة أو فقرة يمكن فهمها على أنها نبوءة بما حدث؛ حتى من قال كلمة أو عبارة في مسرحية عن الأوضاع القلقة في المنطقة، اعتبروها نوعاً من «البشارة» المبكرة، أو «التحذير» المبكر!
بعد ذلك توالت «المفاجآت»، لم يكن أحد يعرف أن للإسلام السياسي مثل تلك القدرة على الاستيلاء على السلطة في أكثر من بلد عربي؛ بل إن فروعاً منهم («داعش») أقامت لنفسها «خلافة إسلامية» نظر لها العالم مدهوشاً، حتى جرى لها ما جرى من هزيمة منكرة.
الحروب الأهلية في أكثر من بلد عربي، بما كان فيها من ضحايا وتدمير، كانت مفاجأة، ولكن المفاجأة الأكبر كانت أنه بعد كل ما جرى، فإن «الدولة العربية» لا تزال باقية ضمن حدودها التقليدية، حتى ولو تغير مضمون ما هو داخل الحدود. عادت الدولة ربما مرهقة، ولكنها عادت؛ ومعها فإن الجغرافيا السياسية فرضت نفسها مرة أخرى، لم يعد ما بين العرب والفرس نوع من الانقسام الشيعي السني كما شاع، وإنما أطماع إيرانية صريحة صراحة التاريخ القديم والحديث.
الإصلاح الجاري في أكثر من بلد عربي؛ خاصة في مصر والسعودية، كان مفاجأة لكثير من المؤسسات الدولية؛ خاصة أن الإجراءات مست أموراً كانت تبدو من قدس الأقداس التي لا يمكن المساس بها، ومع ذلك حدثت.
فما هي المفاجأة الجديدة المقبلة في الشرق الأوسط؟ المفاجأة هي حدث لم يتوقعه ولم يتنبأ به أحد، وكانت نتيجته تغييرات جوهرية في المنطقة. عودة «والت ديزني» إلى مصر ربما تكون مفاجأة؛ لأنها تعني أن المحروسة لم تعد تعني منطقة مخاطر، ولكن الحدث نفسه لا يفيد أكثر من عودة السياحة.
قيام إيران بتسديد صواريخ إلى المنطقة الكردية في شمال غربي إيران، فيه بعض من المفاجأة، ومع ذلك فإن أكراد إيران مثلهم مثل أكراد العراق وسوريا، باتوا يريدون استغلال المرحلة لكي يحصلوا على قدر من الحكم الذاتي؛ الاستقلال لم يعد مطروحاً. السؤال هو: لماذا استخدمت إيران كل هذه القسوة؟ وهل ذلك من قبيل الفزع أن تدفع ثمن وجودها في سوريا ولبنان واليمن، وقبل كل ذلك في العراق؟
الفلسطينيون بات من الصعب أن يقدموا مفاجأة لأحد، فلا حدوث المصالحة بين «حماس» و«فتح» مفاجأة؛ لأن التاريخ يشهد كثرة من المصالحات التي تنتهي بانتهاء التوقيع عليها؛ ولا مفاوضات «حماس» مع إسرائيل مفاجأة؛ لأن لا هذه ولا تلك تريد حقاً التهدئة الاستراتيجية. التهدئة مثلها مثل المصالحة، نوع من التكتيك الذي له أغراض محلية.
أكثر المفاجآت التي يجري الحديث عنها، هي نشوب الحرب بين إيران وإسرائيل؛ ولكن من كثرة الحديث عن المفاجأة فيها، فإنها لم تعد مفاجأة! المسألة هي أن الأجواء ساخنة بشدة لأغراض محلية في أغلبها، سواء فيما بين إيران والولايات المتحدة، أو بينها وبين إسرائيل. أن تكون هناك تناقضات جوهرية لا يشك أحد فيها، ولكن التناقضات دائماً ما تجعل هناك استعدادات للحرب، ولكنها أيضاً تفتح أبواباً للتفاوض. ترى ما الذي يجري في القنوات الخلفية، وجس نبض المسار الثاني؟ وما الذي تفعله العواصم الأوروبية التي احتفلت سوياً مع روسيا والصين بالاتفاق النووي مع إيران، ثم بعد ذلك وجدت نفسها من دون الولايات المتحدة التي خرجت من الاتفاق؟ وأكثر من ذلك أنها أعادت المقاطعة، وفرضتها على كل من يتعامل مع إيران. كل ذلك ليس فيه من المفاجأة شيء؛ لأن توالي التغيرات الداخلية في أميركا وأوروبا جعل الأجواء ساخنة، وعندما تكون الأجواء ساخنة فإنه لا يستبعد وجود شرارة ما تشعل الأمر كله. جماعة الحرس الثوري الإيراني أشعلت النار في أكثر من بلد عربي، ولا يهمها بعد تدمير العراق وسوريا واليمن أن تدمر أطرافاً أخرى؛ ولكن مثل هذا الجنون يوجد منه في إسرائيل كم كبير.
معركة سوريا على وشك أن تصل إلى نهايتها بعد معركة إدلب، فهل تكون المفاجأة هي أنه في إدلب لا تنتهي الحرب، وإنما تطول أو تحصل على نفس آخر يطيلها فترة إضافية؟ الموضوع كله ربما لا يتوقف لا على الحرس الثوري ولا سوريا ولا حتى إسرائيل، فليس مستبعداً أن الأمر سوف يتوقف كله على المفاجأة التي سوف تأتي من انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، فإذا فاز الديمقراطيون باكتساح كما يتمنون، فإن المفاجأة سوف تعني أن ترمب ربما لن تكون له فترة ثانية وأن تعود أيام «العولمة» إلى سيرتها «الطيبة» الأولى. ولكن المفاجأة ربما تكون مقلوبة، فيفوز الجمهوريون، أو تكون هزائمهم لا تخل بتوازن القوى الحالي؛ ولاشك أن ذلك سوف يصيب وسائل الإعلام الأميركية في نيويورك بالجنون، بعد أن باتت تعد الأيام على بقاء دونالد ترمب في البيت الأبيض.
بالطبع من الممكن أن تكون المفاجأة ألا تحدث مفاجآت على الإطلاق، وتبقى الأمور على ما هي عليه؛ سواء فيما يخص الشرق الأوسط أو أميركا أو أوروبا أو العالم كله؛ فالأصل في الدنيا أنها تقوم على قوانين الطبيعة وقواعد المؤسسات وتقاليد الشعوب والدول. ولكن إذا كان هذا الأصل مختلاً لأسباب لا توجد مساحة لذكرها، فربما يكون علينا انتظار المفاجأة المقبلة، أيا كانت في مكانها أو موعدها!