محمد المخزنجي
كاتب مصري
TT

هل يحمي المفترسُ فريسةً؟

في شهر مايو (أيار) عندما يحل الدفء وتتوهج رغبات التزاوج عند كائنات سهول التوندرا على حافة المنطقة القطبية الشمالية في ألاسكا، يجد «الأوز العظيم أبيض الصدر» نفسه في مواجهة اتخاذ قرار خطير: أين يضع عشه في تلك السهول اللانهائية المكشوفة، حيث لا أشجار أو حتى أعشاب طويلة تخبئ بيضه وأفراخه عن عيون مفترسيه من ثعالب قطبية ماكرة ونوارس فتاكة، ثم إنه مضطر للتعشيش على الأرض.
يختار الزوجان من الأوز موقعاً متحدراً لعله يقلل من اكتشاف المفترسين لعش الزوجية المنشود، ويتناوبان في حراسة العش التي تلعب فيها شراسة الذكر دوراً كبيراً لكنه ليس حاسما. هنا يبرز نوع آخر من الدفاعات يعزز حماية زوجي الأوز لعشهما والبيض الذي ستضعه الأنثى والأفراخ التي ستخرج من البيض، وهو دفاع آمن، لكن لبعض الوقت، ويتمثل في احتماء هذا الأوز بواحد من أشرس مفترسيه.
كشفت متابعات الدارسين لهذه الظاهرة العجيبة أن زوجي الأوز يعششان على مقربة عشرة أمتار من عش زوجي «بوم ثلجي» يكونان بدورهما في طور التزاوج ووضع البيض وانتظار خروج نسلهما منه، وهذا النسل البومي تشكل أفراخ الأوز غذاءً نموذجياً له، خاصة وهي أقرب ما تكون، وتحت نظر أبويه القادرين على إحضار هذه الأطعمة الطرية الشهية لصغارهما في لمح البصر. وتساءل راصدو الظاهرة باندهاش: أي مُخاطرة يقدم عليها زوجا الأوز؟
المعروف أن ذكر البوم الثلجي متوحش وشديد العدوانية، وهو قادر على حماية أنثاه وبيضها في العش من الثعالب القطبية والنوارس المسعورة بقصف هجومي متكرر إذا اقتربا من عشه حتى خمسمائة متر، فإذا عشش زوجا الأوز أبيض الصدر بالقرب من عش البوم الثلجي، يفوز زوجا الأوز بحماية مجانية لعشهما في ظل حراسة ذكر البوم لعشه، ولا بد أن ذكر البوم ينتظر أن يرد الأوز ديون هذه الحراسة يوماً ما، وليس لدى الأوز ما يسدد به دينه إلا أفراخه، فهل يضحي بأفراخه مقابل الحماية؟
عادة يبدأ بيض البوم الثلجي فقسه في منتصف يونيو (حزيران)، مستبقاً فقس بيض الأوز أبيض الصدر بأسبوع أو اثنين، وهذا يعني ضرورة إيجاد طعام طري لأفراخ البوم في هذه الفترة، خاصة وعددهم قد يصل إلى أحد عشر فرداً، مما يتطلب من الأبوين صيداً مستمراً على مدار الساعة، وهذا لا يفي به إلا العدد الوفير من قوارض «الليموس» القطبية، وبالفعل يغطي الأبوان مطالب مناقير أفراخهما النهمة، فيمتلئ العش بجثث عشرات من الليموس التي تم قنصها عبر الهجمات البارعة للأبوين، وهو حصاد وفير وجهد خارق يصل بالأفراخ سريعاً إلى درجة النضج والاعتماد على النفس، وهنا تصير أفراخ الأوز الطالعة هدفاً لأفراخ البوم النامية، ضمن قائمة طعامها المتنوعة، فهل يبدأ دفع ثمن الحماية المؤجل؟
هنا يكشف التصميم العظيم للحياة والأحياء عن براعته، فالبوم يضع بيضه على فواصل بين يومين أو ثلاثة، وتخرج منه الأفراخ فرادى على فترات متباعدة، بينما بيض الأوز يفقس جميعه خلال يوم واحد، وعلى الفور يقوم الأبوان بتغطية أفراخهما بجسميهما، لأن زوجي البوم لا يعتبران شيئا صالحاً للطعام إلا عندما يتحرك، إضافة إلى أن عدد أفراخهما لا يكون مُكتملاً بعد، وما هي إلا ليلة واحدة ويطلع النهار الذي لا يُحلِّق فيه البوم، فتتحرك عائلة الأوز متضمنة الأفراخ التي تكون قادرة على السير فور خروجها من البيض، نحو مياه البحر، فيما تكون أفراخ البوم التي تولد عمياء عاجزة عن الطيران ومعتمدة تماماً على أبويها.
وما أن يصل الأوز إلى البحر حتى يستحيل على البوم أن يقتنص فرخ أوز واحدا، إلا إذا كان شارداً على البر بعيداً عن أهله، ففي توقيت متزامن تخرج قوافل الأوز من أعشاشها، آباءً وأمهات وأفراخاً، وبسرعة تنتظم في قبيلة ضخمة منيعة، فالإناث ترعى أفراخها مجتمعة، بينما الذكور تحرس الأمهات والأفراخ جماعة. قلعة حية من الأوز المُسالِم يستعصي على البوم الدموي اختراقها.