فيتالي نعومكين
رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو
TT

القمة الثلاثية... رهان على انتصار الرأي السليم

بدا وكأنه ليس هناك من نقص في التعليقات على اللقاء الدوري للدول الضامنة في التسوية السورية الذي عقد قبل أيام في طهران. لكن أهمية هذا اللقاء بقيت مهمشة. الشيء الأساسي هو فشل توقعات من راهن على تصدع معسكر «الترويكا» (الثلاثية). انتصر الرأي السليم: لم تخفِ هذه الدول تباينات مواقفها، لكنها استطاعت الحفاظ على أجواء الثقة والتوصل إلى حل وسط فيما بينها حول التوجهات الأساسية في التسوية السورية.
من غير المعروف لماذا استعرض القائمون على تنظيم هذه القمة أمام الجميع هذا الانفتاح غير المسبوق وسمحوا للمراسلين بإظهار ما لا يعرض عادة على الجمهور ألا وهو الجدل الذي دار بين الزعماء مع أنه كان بناء واتسم بروح الصداقة والاحترام.
تفاصيل كلمات الرؤساء وتركيزهم خلال النقاشات على إدلب سمح للجمهور باستيعاب ما يقلق كل طرف منهم. على سبيل المثال لفت انتباه المحللين الروس شكوى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان من عدم وجود كلمة «هدنة» في مشروع الوثيقة، أما فلاديمير بوتين فقد لاحظ في هذا الصدد أنه لا وجود لممثلين عن المجموعات المسلحة للمعارضة أو عن «جبهة النصرة» و«داعش» وعليه فلا يستطيع أحد أن يتحدث باسمهم وعن استعدادهم لتطبيق هدنة لكي يلقوا بسلاحهم. للوهلة الأولى يبدو أن المواقف مختلفة، لكن إذا تعمقنا بتحليل ما قيل نجد أنه لا وجود من حيث الجوهر لخلافات مبدئية بين الرئيسين بوتين وإردوغان؛ فكلاهما مع نزع سلاح الفصائل المسلحة ومع مكافحة الإرهابيين. في الوقت نفسه أشار الرئيسان إلى اختباء الإرهابيين خلف السكان المدنيين. ظهرت في كلمة بوتين ثقة في أن القضاء على الإرهابيين يتسق مع مصالح الولايات المتحدة. مع أن جميع تصريحات الرئيس الروسي كانت لبقة تجاه شركائه في مكافحة الإرهاب إلا أن هذا لا يلغي التقييم السلبي الحاد الذي أبدته موسكو لما يتم التحضير له بمساعدة الدوائر الغربية من استفزازات باستخدام الأسلحة الكيماوية وما سيتبعه من توجيه ضربات إلى مواقع القوات الحكومية السورية.
ما يلفت الانتباه أيضاً أن الرئيس الروسي ركز على استخدام المسلحين للطائرات المسيرة المحملة بالقنابل والتي تنطلق من إدلب إلى مواقع الجيش السوري ومواقع تمركز العسكريين الروس، وذكّر في هذا الصدد بأن بعض قطع هذه الأجهزة تورد من جهات لم يتطرق إلى تسميتها. بدوره انتقد الرئيس إردوغان توريد الولايات المتحدة الأسلحة إلى سوريا، قاصداً بذلك الأكراد. ونقطة مهمة أخرى تمثلت في تركيز الرئيس بوتين على حق الحكومة السورية في بسط سيطرتها على كامل أراضيها. أما الناطق الرسمي باسم الرئاسة الروسية ديميتري بيسكوف وخلال تعليقه على نتائج القمة قال إنه يتوجب على جميع القوى الأجنبية الموجودة في سوريا الانسحاب منها.
على الأغلب سيتوجب على الحكومة السورية، رغم الدعم الذي تقدمه لها روسيا وإيران من حيث المبدأ، تأجيل عمليتها الواسعة في إدلب. الحديث يدور هنا عن مرحلة مؤقتة ستقوم خلالها تركيا، كما يتوقع المحللون، بكل ما بوسعها لفصل مجموعات المعارضة المعتدلة بالإضافة إلى السكان المدنيين عن الإرهابيين. أما الضربات الجوية المركزة والدقيقة على مواقع المتشددين فسوف تتواصل مع مراعاة عدم إلحاق الضرر بالسكان المدنيين.
نقطة مهمة أخرى هي إعلان قادة الدول الضامنة عن دعمهم للعملية الدستورية ووقوفهم مع الإسراع في تشكيل اللجنة الدستورية. رغم أن دور الأمم المتحدة لا يشكك فيه أحد ويلقى كل أشكال الدعم فإنه من المفهوم أن مصير العملية السياسية على الأغلب متعلق بالدول الضامنة أكثر مما هو متعلق بالأمم المتحدة.
من الواضح أن المحادثات في طهران لم تكن سهلة. القمة عقدت في مرحلة صعبة بالنسبة للدول الضامنة وللمنطقة وللمجتمع الدولي بشكل عام. لدى كل دولة من هذه الدول الثلاث، رغم الاختلافات الجذرية في وزنها الدولي وشكل علاقاتها مع الدول الغربية، مشكلاتها وحساباتها مع الولايات المتحدة والغرب بشكل عام. تركيا مثلاً هي عضو في حلف «ناتو» وفي نفس الوقت فإن جيشها يعد ثاني أكبر جيوش الحلف بعد الولايات المتحدة. وهي نظرياً لا تزال تعتبر مرشحة للدخول في الاتحاد الأوروبي، رغم أن عدم رغبة أغلب دول الاتحاد الأوروبي الواضحة في اتخاذ خطوات مقابلة تجاه أنقرة تثير امتعاض الأخيرة.
تحاول تركيا الحصول على أشياء كثيرة من الولايات المتحدة؛ منها وقف توريد الأسلحة إلى الأكراد في سوريا وتسليم الداعية المتمرد فتح الله غولن، الذي تتهمه تركيا بتنظيم انقلاب، ووقف الضغوطات على أنقرة بهدف جعلها تتخلى عن اتباع سياسة خارجية وداخلية مستقلة. أما في مجال الدفاع والأمن فالأمر متعلق بالدرجة الأولى بنية أنقرة شراء منظومة الدفاع الصاروخية الروسية «إس 400». وفي مسألة حقوق الإنسان، وهو ما تتهم واشنطن إردوغان بخرقها، المهم هنا هو مصير القس الأميركي أندرو برونسون. الاقتصاد التركي يعاني من التداعيات المباشرة وغير المباشرة للضغوطات الناتجة عن العقوبات الأميركية. من الواضح تماماً أن التعاون التركي الإيراني الروسي في إطار «الترويكا»، أي الدول الضامنة في التسوية السورية، لا يعجب واشنطن. الغرب يتهم إردوغان بتشكيل «أوتوقراطية انتخابية»، مع أن الغرب في الفترة الأخيرة خفف بشكل ملحوظ من لهجته المعادية لتركيا في هذا المجال. أغلبية المحللين الروس يرون أن إردوغان الذي لا يزال يبدي صلابة في الدفاع عن مواقفه سيضطر إلى تقديم تنازلات وعلى القبول بالحلول الوسط. بعض الخبراء يتحدثون عن فرضية بأن الرئيس التركي يعول على استبدال برونسون بـغولن، لكن مثل هذا التبادل غير المتكافئ يبدو وكأنه ضرب من الخيال. تحاول أنقرة، عبر استعراضها خلال قمة طهران عدم رضائها تجاه خطط دمشق في إدلب وبنفس الوقت استعدادها للعمل على مكافحة الإرهاب، إرسال إشارة إلى أميركا بأن موقفها لا يشابه الموقف الإيراني والسوري ولا حتى الروسي، بل هو أقرب إلى الموقف الغربي.
لدى العضو الثاني في «الترويكا» أي إيران مشكلات أكثر مع واشنطن مما هو لدى تركيا، وفرص الاتفاق أيضاً أقل بكثير. العقوبات الأميركية قاسية للغاية. التعويل على سياسة أوروبية مستقلة لم يأتِ بمردوده رغم عدم رضاء الدول الأوروبية عن خروج الولايات المتحدة من الصفقة النووية. إن عدم رغبة الشركات حتى تلك التي من الدول الموالية لطهران، في مواجهة العقوبات الأميركية يجعلها تغلق أعمالها هناك. في الوقت نفسه فإن الإيرانيين يدركون أنه ليس هناك من عقوبات التي لا يمكن تجاوزها حتى ولو جزئياً. إسرائيل من جهة أخرى تلوح من خلف ظهر الولايات المتحدة بحكومتها اليمينية المتشددة وتسعى لإخراج إيران من سوريا ولتقليص نشاطها بشكل عام في المنطقة. بيد أن القيادة الإيرانية تستعرض تعنتها أمام خصومها أكثر من تركيا. في الوقت نفسه لدى الرئيس حسن روحاني عدة أوراق في جعبته للمحادثات، لكن الرئيس الإيراني لا يستطيع القبول باقتراح الرئيس دونالد ترمب لإجراء لقاء معه، ذلك لأن إجراء محادثات من موقف ضعف يعني فقدان ماء الوجه وبشكل عام لا يمكن التعويل على تنازلات من الرئيس الأميركي. العقوبات الأميركية مؤلمة للغاية ولكن طهران لا تنوي الاستسلام.
العضو الثالث في «الترويكا» أي روسيا لديه مشكلاته التي لا تقل جدية عن غيرها مع الولايات المتحدة ومع حلفائها الأوروبيين. توجه إلى روسيا مطالب سخيفة ومثيرة للاستهزاء مبنية على اتهامات من دون أي أدلة. اعترفوا أنكم تدخلتم في الانتخابات الأميركية!! وكأن الولايات المتحدة ليست هي من تدخل ويواصل التدخل في الشؤون الداخلية للدول المختلفة، حتى إن الأمر يصل بها إلى تغير الأنظمة. والأمر الأكثر سخرية: اعترفوا أنكم سممتم الناس في لندن!! رغم كل شيء تبقى جميع الفرص قائمة لتحسين العلاقات. فهناك اهتمام كبير للغاية في التعاون وإدراك بعدم جدوى استخدام العقوبات للضغط على دولة لا تزال تحتفظ بكامل التكافؤ النووي مع الولايات المتحدة وتجري في الوقت نفسه تحديثاً عميقاً لقدراتها الدفاعية وتعمل على تصدير مواد الطاقة الضرورية للحياة إلى الغرب وحققت في الفترة الأخيرة نجاحات اقتصادية كثيرة على الرغم من العقوبات الجائرة المفروضة عليها.

* خاص بـ«الشرق الأوسط»