خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

خيال هندسي أم هندسة خيالية؟

خطرت لأحد المهندسين العراقيين قبل عدة سنوات فكرة عجيبة؛ قال إن كثيراً من مياه دجلة تتبدد قبل وصولها للخليج؛ يتبخر بعضها ويغور البعض الآخر في التربة ويضيع؛ فكر في تلافي ذلك بنصب أنبوب كبير من الخرسانة، بقطر ثلاثين متراً، يحمل هذا الماء من حدود تركيا في الشمال إلى شط العرب في الجنوب! ولكن ماذا سيحل بشواطئ دجلة، وأمواج دجلة، وليالي دجلة، وقد حبسوا الماء في أنبوب تحت الأرض؟ وماذا سيفعل الشعراء والمطربون؟ فما من نهر حظي بقريحتهم كنهر دجلة؛ حتى المعري لم يفته ذكر هذا النهر الخالد:
وردنا ماء دجلة خير ماء
وزرنا أشرف الشجر النخيلا
وتلاه الجواهري في عصرنا هذا يوم قال:
ودجلة تمشي على هونها
ويمشي رخياً عليها الصبا
سلام على جاعلات النقيق
على الشاطئين بريد الهوى
لعنتن من صبية لا تشيخ
ومن شيخة دهرها تصطبى
وأين ستذهب الضفادع والسلاحف؟ وماذا عن مصير البعوض والذباب إذا ما نفذ هذا المشروع؟ وعن قريب، سيكون علينا أن نعيد سبك تلك الأبيات الشعرية الخالدة، فنقول:
ودجلة تجري بأنبوبها
ويجري عليها ضجيج الملا
سلام على شاحنات الوقود
إلى الطرابين تدك الربى
ربما سيرمي الأخ المهندس بهذه الاعتراضات، باعتبارها شاعريات رومانطيقية لا تليق بعصر التنمية والعلوم العصرية، ولكن ماذا عن البشر؟ وأين سيفرغون فضلاتهم؟ وماذا عن حق البعوض في التفريخ الحر؟ وحق الجاموس في السباحة والاستحمام؟ وهو حق اكتسبوه منذ القدم بموجب شريعة حمورابي، والدعوى الشهيرة التي ما زالت إضباراتها محفوظة في محكمة بداية بابل، بعنوان «الجاموس ضد بني آدم»، وحكم فيها حكماً غيابياً بالنظر لعدم وجود من يمثل بني آدم في أرض ما بين النهرين، أو الدفاع عن حقوقهم ضد الجاموس.
لعدة سنين وعباد الله في هذه الديار يخرجون من دورهم كل مساء ليحتسوا الشراب والعصير، ويأكلوا الخس والبصل على شواطئ هذا النهر الساحر، يستمتعون بتغريد البلابل والعصافير، ويسيئون لهذا المسؤول أو ذاك المدير على ملء حريتهم. سيكون عليهم أن يفعلوا كل ذلك بجانب أنبوب خرساني عتيد، أصم وأخرس، وبدلاً من تغريد البلابل سيستمعون لضجيج التوربينات التي تضخ الماء بسرعة عشرين ميلاً في الساعة.
لا يقل في رأيي هذا المشروع الهندسي المدني عن مشروع زميله المهندس الكهربائي الذي وضع تصاميم إلكترونية لتركيب مراوح كهربائية عملاقة على المنائر، بدلاً من مكبرات الصوت، بحيث تهوي في أيام الصيف القاسية لجمهور المدينة من كل الأديان والطوائف، دون تمييز أو تفضيل، وبالمجان ودون ضرائب. تلف وتدور، وتبث النسيم المنعش بهدوء، ودون أي ضجيج.