علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

{الإخوان المسلمون} بين هنديّ مجامل وآخر صريح

إنَّ حرص الندوي حين التقى الإخوان المسلمين في مصر لأول مرة في أول عام 1951 على أن يسمع منهم عن حسن البنا كل ما يعرفونه عنه، بالمشاهدة أو السماع، لأنه كان قد ثمّنه قبل أن يَقْدم إلى مصر بما لا يتعدى أربعة أشهر. وسبب هذا التثمين أفصح هو عنه في سيرته الذاتية.
ففي زيارته الثانية إلى الحجاز كان يستهدف أدباء الحجاز - المتأثرين بأدباء مصر، وتلك قضية كان يستشنعها لتعصبه الديني - لجذبهم للدعوة الإسلامية الأصولية الجديدة، مع تجديد أواصر علاقته بمشايخ الدين التي أنشأها معهم في زيارته الأولى للحجاز. ولمّا تمكّن من الاجتماع بأدباء الحجاز لمس عند بعضهم نزعة إسلامية إخوانية، وبأسلوب ميلودرامي، ادّعى هؤلاء أنه «لولا تعرفهم على شخصية الإمام حسن البنا لكانوا فريسة الإلحاد واليأس الكامل عن مستقبل هذا الدين، والانتفاضة الإسلامية ونهضة المسلمين من جديد»! فأكبرَ هذه الشخصية وعَظُمت في عينه. وحين قَدِم إلى مصر والتقى القرضاوي وصحبه وأساتذته ومشايخه ورؤسائه وقادته، كان متلهفاً إلى أن يعرف عن رجل يجهل تاريخه ويجهل تاريخ دعوته.
إن الندوي - غفر الله له - أهمل متعمداً معلومة أخرى لا يكتمل خبر أنه لم يكن يعرف اسم حسن البنا واسم دعوته إلا بها، وهي: متى وكيف عرف اسم البنا واسم دعوته؟ هل عرف اسمه واسم دعوته بعد زيارته الأولى للحجاز في 19 يوليو (تموز) عام 1947، أم بعد اغتياله في 12 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1949، أم بعد زيارته الثانية للحجاز في شهر سبتمبر (أيلول) عام 1950؟
إنني متيقن أنه أهملها متعمداً، فلربما أنه عرف اسمه واسم دعوته في التاريخ الثاني أو التاريخ الثالث، وهو يعلم أن إفشاء معلومة كهذه في عقيدة رفاقه على الضفة العربية، الإخوان المسلمين، ستكون قاصمة ما بعدها قاصمة عليهم.
لمكانة الندوي الكبيرة في الفكر الإسلامي الأصولي المحدث، ولرواج مؤلفاته ورسائله ومقالاته لدى الإسلاميين في العالم العربي منذ أن أصدرت (لجنة التأليف والترجمة والنشر) - دار النشر المصرية المرموقة - الطبعة الأولى من كتابة الشهير «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟» عام 1950، طلب الإخوان المسلمون منه أن يقدم لكتاب حسن البنا «مذكرات الدعوة والداعية» في طبعته الثانية الصادرة عام 1966، فاستجاب لطلبهم.
ولبواعث أمْلتها اللباقة، بعد أن عرف قدرة البنا البارعة في إنشاء وبناء ونشر دعوة دينية متعصبة في مصر، وعرف أثرها في الحجاز وفي سوريا والعراق وفلسطين ولبنان - وهو الذي أتى إلى العالم العربي بمثلها، لكنْ على قواعد وضمن بنيان فكري أرسخ وأمتن وأعمق منها - قال: «لقد فاتني أن أسعد بلقائه في مصر وفي غير مصر، فقد كان العام الأول الذي كتب الله لي فيه الحج والزيارة، وخرجت من الهند لأول مرة، هو عام 1947، وهو العام الذي تغيّب فيه (البنا) عن الحجاز ولم يغادر مصر... بيد أني قابلت بعض تلاميذه ودعاته، فلمست فيهم آثار القائد العظيم والمربي الجليل، فلمّا قدِّر لي أن أزور مصر سنة 1951، كانت رحمة الله قد استأثرت به».
إن فضل شخصية البنا عند الندوي في ذلك التقديم، قام على أساس إدانة وشجب وتنديد ديني شامل، متزمت ومغالٍ ومتطرف، للنهضة الحديثة التي كانت تعيشها مصر في الثلث الأول من القرن الماضي.
إنَّ ما لم يبح أبو الحسن الندوي به حين التقي الإخوان المسلمين أول مرة في مصر، واطلع على بعض مطبوعاتهم، باح به صديقه الحميم ورفيقه في ندوة العلماء وفي الجماعة الإسلامية، مسعود الندوي (ت 1954) حين التقى الإخوان المسلمين وقرأ بعض كتبهم في زيارته للعراق عام 1949. فقال: «إن حركة الإخوان بتمامها قائمة على العواطف والأحاسيس، ولا يوجد لديها أساس فكري، ولهذا فهي قاصرة عن إيجاد الحلول العلمية والعملية للمشكلات الحالية، فلا يمكن لقوة الخطاب فقط أن تُحدث تغييراً ثابتاً في الحياة». ورأى أن دعوتهم تفتقر إلى العلم والفكر. وأرجع هذا العوز إلى أن البنا نفسه لم يكن عالماً كبيراً. ولما قرأ كتاب البنا «مذكرات الدعوة والداعية» علق مستعجباً، فقال: «شخصية البنا شخصية عجيبة وغريبة، لم يكن عالماً كبيراً. كما لم يكن أديباً ولا مفكراً».
هذان القولان وذلك الرأي باح بها مسعود، رغم رضاه عن دعوة الإخوان المسلمين للتشابه في المنطلقات والأهداف وفي فهم الدين بينها وبين دعوة الجماعة الإسلامية، ورغم تثمينه لشخصية البنا لتمكنه من إحداث انقلاب عظيم الشأن في مصر. وهو تثمين قائم - وأسفاه - على تصور زائف بلغ المنتهى في الغلو الديني التكفيري، حيث ادّعى أنه قبل أحداث ذلك الانقلاب، لم يكن يُسمع صوت للإسلام في مصر!
لعل في المثال المتأخر الذي استقيناه من كتاب يوسف القرضاوي «أبو الحسن الندوي كما عرفته»، وذلك حينما جعل من البنا الشخصية الثانية التي أثرت في حياة الندوي، ما يوضح أكثر للدكتورة حياة اليعقوبي أسباب زج الإخوان المسلمين رسالة البنا في الجهاد بين رسالتي المودودي وسيد قطب في الجهاد.
مرّ بنا في المقال ما قبل السابق قول الدكتورة حياة أن سيد قطب قد تتلمذ علمياً وسياسياً على البنا وعلى المودودي.
ثمة معلومة في تاريخ قطب وتاريخ البنا، هي لا تعلمها، وهي أن الأول كان يبغض الثاني ويكرهه، وأنه كان يتعالى عليه معرفياً، وأنه كان يسخر ممن تبعوه في دعوته. فكيف يسوغ - على ضوء هذه المعلومة - أن يكون قد تتلمذ عليه علمياً وسياسياً؟!
إنه ليس لدى حسن البنا أو أيٍّ من كتاب الإخوان المسلمين ما يمكن أن يضيفوه إلى سيد قطب، فهم أقل ثقافة منه.
في كتابه الإسلامي الأصولي الأول «العدالة الاجتماعية في الإسلام» الذي عمل على إنجازه في المنتصف الثاني من الأربعينات، أتته الإضافة التنظيرية الإسلامية الأولى من زعيم هندي مسلم، هو مولانا محمد علي من خلال كتابه «الإسلام والنظام العالمي»، ومن يهودي نمساوي متحول إلى الإسلام، هو محمد أسد من خلال كتابه «الإسلام على مفترق الطرق».
والإضافة التنظيرية الإسلامية الثانية تعرف إليها في أول الخمسينات من خلال كتاب أبي الحسن الندوي المذكور سابقاً، وعدد من رسائله القصيرة، ومن خلال كتب المودودي المترجمة إلى العربية في تلك السنوات والمنشورة بواسطة «لجنة الشباب المسلم».
هناك خطأ شائع بين الدارسين، يتعلق بتحديد الفترة الزمنية التي بدأت فيها صلة سيد قطب بفكر المودودي، فهم يحددونها بأول الستينات، والصحيح أنها بدأت في أول الخمسينات.
وسبب هذا الخطأ أنهم اعتمدوا في تحديدها على بدء سيد قطب في النص على الاقتباس من بعض كتب المودودي. ولأنهم – أيضاً - كانوا لا يعلمون شيئاً عن مطبوعات «لجنة الشباب المسلم»، وكانوا يعتقدون أن ترجمة كتب المودودي إلى العربية بدأت في أول الستينات.
لسيد قطب كتاب اسمه «السلام العالمي والإسلام» صدر عام 1951. هذا الكتاب مكون من ثلاثة فصول هي: سلام الضمير وسلام البيت وسلام المجتمع وسلام العالم. الفصل الأخير كان موضوعه الجهاد في سبيل الله، والذي نظّر فيه أن سلام العالم لا يتحقق إلا به!
في هذا الفصل كان سيد قطب متكئاً على نحو كامل على بعض أفكار كتاب المودودي «الجهاد في سبيل الله» الذي نشرته «لجنة الشباب المسلم» عام 1950. ورغم اتكائه الثقيل هذا، فإنه أخفى المصدر الذي كان يغرف منه، لكي يعتقد المثقفون والنقاد والكتاب وقتها أن «الأفكار الجديدة» حول الجهاد التي قال هو بجزء يسير منها وصاغها بأسلوبه، هي بعض وثباته التنظيرية.
وكان أول من فضح هذا المسلك في طريقة تأليفه للكتب، عز الدين إسماعيل. ففي مراجعة نقدية نشرها في مجلة «الثقافة» بمناسبة صدور الطبعة الثانية من كتاب سيد قطب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» عام 1952، أشار إلى أن أظهر ما تتسم به مؤلفاته صياغة أفكار الآخرين من جديد. وذكر من كتبه التي تتجلى فيها هذه السمة، كتابه «النقد الأدبي، أصوله ومناهجه»، وكتابه «التصوير الفني في القرآن»، وكتابه «مشاهد القيامة في القرآن».
أما كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، فمما قاله عنه: «أنا لا تروعني المراجع التي بلغت أربعة وثلاثين والتي ذيّل بها المؤلف الكتاب، فقد قرأت الكتاب ذهاباً وجيئة وعرضت تماماً مدى إفادته من هذه المراجع. ورغم أنها جميعاً - فيما عدا كتب الدين - تعد مراجع ثانوية، فإن المؤلف قد أخفى إفادته من بعضها، بحيث لم يشر إليها غير مرة في أثناء البحث، وأعني بذلك كتاب (الإسلام والنظام العالمي) لمولانا محمد علي». وكما نرى، فإن مولانا محمد علي قد وقع عليه ظلم أقل من الظلم الذي وقع على المودودي، فلقد أشير - على الأقل - إلى اسمه واسم كتابه في ثبت مراجع الكتاب، وأُشير إليهما مرة واحدة في متن الكتاب، بينما المودودي لم يشر إلى اسمه واسم كتابه في الفصل المومأ إليه نهائياً. وللحديث بقية.