ماك مارغوليس
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
TT

السياسة تكلف البرازيل متحفها الوطني

لا نعرف حتى الآن ما الذي أشعل النيران التي أتت على متحف ريو دي جانيرو الوطني، وحولته إلى كتلة من الفحم الملتهب. وكان رجال الإطفاء لا يزالون يبحثون تحت الأنقاض، بحثاً عن أدلة الحريق المروع الذي دمر أبرز متاحف أميركا اللاتينية العلمية، إلى جانب أغلب مجموعة المقتنيات التي لا يمكن تعويضها.
ولم تكن حشود وسائل الإعلام الاجتماعية في البرازيل لتنتظر تقارير الطب الشرعي في البلاد بحال. ووجه كل فصيل اللوم إلى معسكر الأشرار المفضل لدى كل منهم: منهم من اتهم رجال الأعمال الجشعين، ومنهم من اتهم الشعبويين الفاسدين الذين يغدقون الأموال الطائلة على الأصدقاء والمحاسيب، ومنهم من فضل اتهام العدو الراهن، ألا وهو الرئيس البرازيلي سيئ الحظ ميشال تامر.
ولم تبدأ الاتهامات في الاتجاه يمنة ويسرة مع بدء الحريق؛ بل كان الحريق مجرد عامل تحفيز للحرائق السياسية التي اندفعت بقوة غاشمة، خلال المرحلة الأخيرة من الحملة الانتخابية الأكثر إثارة للانقسام في البلاد في تاريخها الحديث. ومن المتوقع للانتخابات العامة أن تُجرى خلال الشهر المقبل في البرازيل.
ولدى الشعب البرازيلي ما يكفيه من الأسباب الوجيهة للغضب والسخط. فهم غير راضين عن تهديد مستقبل البرازيل الذي يتسم بالمشروعات الكارثية في الآونة الأخيرة، ومن نهب الأموال العامة في البلاد، مع السماح بانتشار الجرائم المميتة هنا وهناك، ويبدو أن النخبة السياسية الحاكمة في البلاد قد تجاوزت حدود الفعل والاستطاعة، وتركت جزءاً كبيراً من ماضيها المزري يخرج إلى الملأ، برائحة تزكم الأنوف.
وأفاد المسؤولون بالمتحف المحترق، بأنهم نجحوا فقط في إنقاذ 10 في المائة من محتوياته. وكان المتحف الوطني يضم مقتنيات نادرة، مثل الهيكل العظمي الكامل للديناصور العشبي المنقرض ماكساكاليسوروس، والذي كان يعيش في براري الأرض قبل 80 مليون عام. وكذلك جمجمة «لوزيا» وهي أقدم امرأة برازيلية معروفة حتى الآن.
وقالت تانيا أندرادي ليما، الأمينة السابقة لقسم الآثار في المتحف: «إنني محطمة للغاية»، وقالت إحدى عالمات النبات في المتحف عنها: «إنها في صدمة شديدة منذ اندلاع الحريق».
ومما لا شك فيه، هناك كثير من اللوم ينبغي توجيهه، ومع ذلك، فإن مآسي المتحف الوطني وأمنائه، والتحذيرات المسبقة بشأن الإهمال الجسيم، ليست بالأنباء الجديدة. فلقد كان القصر الذي يعود إلى قرنين من الزمان، والذي تحولت أروقته إلى المتحف الوطني للبرازيل، يعاني من الإهمال المزمن لفترة طويلة، وكانت حالته من الموضوعات المثارة في وسائل الإعلام المحلية منذ عام 1958. وعلى ما يبدو فإنه ما لم يتخلص الشعب البرازيلي من حالة الصدام الحزبية القميئة التي تحوم في أفق البلاد منذ فترة ليست بالقصيرة، فسوف يكون هناك وبكل تأكيد قدر كبير من المخاطر على التراث الوطني.
لقد أدى الإهمال الجسيم، والصيانة الرديئة، وسوء الإدارة الفادح، والتخفيضات الكبيرة في الميزانية، إلى تحويل التراث الوطني ونوادر المقتنيات الثقافية إلى أطلال وأنقاض. وخلال السنوات الأخيرة، أتت النيران على جزء كبير من متحف اللغة البرتغالية في عام 2015، ومتحف التاريخ الطبيعي في عام 2013 بمدينة ميناس غيرايس، ومركز أبحاث الزواحف الأول في البلاد في عام 2010. ودعونا لا ننسى الكارثة المريعة في متحف ريو للفن الحديث، الذي احترق بالكامل في عام 1978، إذ احترقت فيه لوحات الفنانين العالميين الكبار، أمثال كليي، وبيكاسو، ودالي.
ولم تكن القطع الأثرية التي لا تقدر بثمن هي فقط المعرضة للتهديد بسبب سوء الإدارة في البرازيل؛ بل إنه التراث الوطني لحضارات بأكملها. فلقد ترك الإهمال الفيدرالي الجسيم المجتمعات الأصلية في البرازيل (وهي قبائل الأمازون القديمة المعزولة والمحمية اسمياً في البلاد، والتي لا تتناسب أدواتها العتيقة مع المناشير الخشبية الحديثة، وعمال المناجم بآلاتهم المميكنة، وقطعان الماشية الجائرة، أو مسببات الأمراض المستوردة من الخارج) تسقط في براثن الضرر والأذى.
وليس من قبيل السخرية أن يتم تخصيص عشرات العلماء لمحاولة فهم أساليب حياة سكان البرازيل الأوائل، وكشف أسرار الألفية حول كيفية الحياة داخل أكبر الغابات الممطرة في العالم، والذين قاموا بآخر الأبحاث والدراسات المخزنة نتائجها في المتحف الوطني المحترق!
تقول دينيس غوميز، عالمة الخزفيات والفنون القديمة في قطاع الأمازون الأوسط: «لا تقتصر دراسة علم الآثار على المواقع الأثرية والحفريات؛ بل تتعين معاودة فحص المجموعات الأثرية للوقوف على أدلتها التاريخية في ضوء القرائن والنظريات الجديدة المستحدثة. فضلاً عن جمع القطع الخزفية السليمة، التي لم يعد لها وجود في المواقع. لقد كنا نحتفظ بخرائط المواقع، ودفاتر الملاحظات، ويوميات العمل والمتابعة داخل المتحف. إنها سنوات تلو السنوات من العمل الموثق. وليست لديَّ أي فكرة إن كان أي منها قد نجا من الحريق».
ومع بحث العلماء المضني عن بقايا أعمالهم وجهد السنوات الماضية، من شأن صناع السياسات وأساطين البيروقراطية في البلاد أن يواجهوا نتائج أخطائهم، ويبحثوا عن طرق جادة لحماية الكنوز التاريخية في البلاد.
ومن المؤكد أن الانكماش الاقتصادي الواضح في البرازيل قد أدلى بدلوه في الحادثة المروعة، فإن الثقافة والفنون في كثير من الأحيان هي من أول البنود التي تتأثر بتخفيضات الميزانية، ولكن الموارد المهدرة في الواقع هي الجاني الحقيقي.
ولنفرض أن بنك التنمية الوطني قد جدد الاقتراح ببرنامج إعادة التأهيل بقيمة 5 ملايين دولار في عام 2015؛ لأن الجامعة الفيدرالية في ريو دي جانيرو، التي تشرف مباشرة على المتحف، قد تجاهلت تضمين خطة الوقاية من أخطار الحريق، وأنه قد تمت الموافقة على الخطة المعدلة في يونيو (حزيران)، مع البدء في صرف الأموال اعتباراً من أكتوبر (تشرين الأول)، فإن فقدان القناعات ضيقة الأفق والفكر، سوف تعتبر من البدايات الجيدة.
وقبل عقدين من الزمان، على ما يبدو، رفض المديرون في الجامعة التي تمولها الحكومة، عرض البنك الدولي لتحديث المتحف الوطني بمبلغ يقدر بنحو 80 مليون دولار، فيما يبدو بسبب أن الخطة المقترحة قد تضمنت إلزام الجامعة البرازيلية بتسليم إدارة المتحف إلى مجلس مستقل عنها، يخضع لإشراف منظمة خاصة غير هادفة للربح. وعلى الرغم من أنها من المحرمات المعروفة في الحرم الجامعي البرازيلي العام، فإن فكرة الإدارة المستقلة هي النموذج الذي أدى إلى رفع سيمفونية ساو باولو، والمعهد الوطني للرياضيات التطبيقية والبحتة، إلى مصاف المعاهد العالمية.
ومن المشكلات الأخرى القائمة، هي القيادة وفق السياسة. ففي حين أن حملة السخط والغضب على احتراق المتحف كانت أصلية ومخلصة، فإن المنافسين السياسيين في البلاد يبدون أقل اهتماماً وقلقاً بشأن كيفية حماية المعالم والتراث الوطني، من اهتمامهم بما وصفه المحلل السياسي ثياغو دي أراغاو بقوله: «التسلح بالمأساة في خدمة الأغراض الحزبية المختلفة». على سبيل المثال، قلل الناطق الرسمي باسم الحكومة البرازيلية الحالية، كارلوس مارون، من أهمية الانتقادات الموجهة ضد الحكومة، ووصفها بأنها كمثل «بكاء الأرامل الذين لا يبدو أنهن يعشقن المتحف كثيراً».
ورغم أنه من الواضح ضلوعه في بعض المعارك السياسية في البلاد، فإن عبارة السيد مارون تحمل قدرها المعتبر من الأهمية. فلا تزال المأساة في مراحلها المبكرة، والمشاعر حادة ومتطرفة للغاية بسببها، ولا يمكن استخلاص الدروس والعبر منها بعد، ولكن من الواضح أيضاً أن الشعب البرازيلي في حاجة ماسة إلى الاعتناء بتراثه الثقافي، بقدر اهتمامه بمناقشات وجدالات المواقف الحزبية المتباينة والمتناقضة.
وليس من شأن ذلك أن يفضي إلى أي تسوية سياسية من أي درجة، ولكنه قد يؤدي إلى إنقاذ المتحف القادم من الدمار.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»