خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

هيبة الكتاب

من المعتاد أن يتبجح بعض الناشرين بمعرفتهم بتجارة الكتب وتوزيعها وتسويقها. ولكنهم في الواقع أجهل بكثير من المؤلفين الذين ينشرون لهم. لقد حدثت تطورات كبيرة في إقبال الجمهور على الكتب فسحت فرصاً لم يسبق لها مثيل في تاريخ الأدب والعلم. ومع ذلك فقد مرت دون أن ينتبهوا إليها مطلقاً. وأهم هذه الفرص تحويل الكتب إلى نوع من الموضة والمظاهر الاجتماعية.
لقد كسبت الشركات الألمانية قبل سنين ألوف الجنيهات من بيع البيانوهات إلى العوائل الوجيهة المصرية التي لم تكن لها أي فكرة عن الموسيقى الغربية أو عزف البيانو، ولكنها دأبت على شراء البيانو من باب التحضر والتغنج. وكانوا يضعونه في الصالون، ويدأبون على مسحه وصقله كل يوم دون أن يجرؤوا على فتحه، ناهيك عن ضرب مفاتيحه. ويقال إن إحدى الشركات اليابانية أخذت تصدر لهم البيانوهات من دون أوتار، مما أعطى حيزاً إضافياً للست الهانم لخزن ملابسها.
وقد انتهى هذا التقليد بثورة يوليو (تموز)، ولكننا قوم نجيد تطوير قوالب العادات دون محتواها. بموت عادة البيانو ظهرت عادة المكتبات. أصبح من لوازم الوجاهة وجود مكتبة في بيت العروس حافلة بالكتب الأنيقة التي لا يفتحها أحد، كما كان الحال مع البيانو. ويقال إن بعض الهوانم مزقن ما فيها من أوراق واستعملن الأغلفة الجلدية علباً للشكولاته. وهو إجراء ذكي يحول ما لا فائدة فيه إلى شيء كثير الفائدة. وحرصت أسر الباشوات التي أضيفت إليها أسر الوجاهات الجديدة على اقتناء الكتب المجلدة الأنيقة، بما يضفي على الصالونات هيبة خاصة، بل وعمد بعضها إلى اختيار المجلدات التي تنسجم مع أثاث الصالون من كنبات وطاولات وستائر. وذكر أن بعض السيدات أصبحن يخترن الكتب بما ينسجم مع فساتين الموسم. وكن يغيرن الكتب بتغيير ملابسهن.
وكل هذا الوقت وهناك ناشرون عرب غارقون في النوم. يستفيقون أحيانا ليقرأوا المخطوطات ويفكروا بالعناوين وصور الغلاف. عناوين إيش يا سادة؟ مضيعة وقت! الخطأ الأساسي الذي وقعوا فيه هو تصورهم أن زبائنهم يشترون كتبهم المجلدة الأنيقة ليقرأوها. وهذا وهم كبير. من يقرأ الكتب لا يشتريها، لسبب واضح، وهو أن قراء الكتب هم دائماً المفاليس. يشتري المترفون الكتب للزينة والهدايا. إذا قيل إن كل صحيفة تباع يقرأها أربعة أشخاص، فإن كل أربعة كتب تباع يقرأها نصف قارئ، على اعتبار أن أكثر قرائنا لا يكملون نصف الكتاب، وما زلت أذكر صديقي المحامي عبد المعطي عندما سألته ما إذا كان قد قرأ المجموعة الكاملة لنجيب محفوظ فنفى ذلك بإباء. بيد أنني ما زلت متردداً في تصديقه. لقد كان صديقي محامياً ذكياً ويعرف أن قراءة الروايات تحط من مكانته المهنية، وتدل على قلة زبائنه. وكل هذا الكلام إشارة سريعة مني ككاتب للناشرين من أصدقاء وغير أصدقاء.