راجح الخوري
كاتب لبناني
TT

نقطة الحريري على سطر عون

التراشق بالتصريحات لا يشكّل الحكومات، لكنه يعمّق العقبات التي حالت وتحول حتى الآن دون قيام الحكومة اللبنانية الجديدة، رغم مرور ثلاثة أشهر على تكليف الرئيس سعد الحريري بأكثرية راجحة وصلت إلى 112 نائباً.
وهكذا عندما يقول الرئيس ميشال عون: «يبدو أن الرئيس المكلّف استمع إلى المطالب بما يكفي، وعليه أن يأخذ المبادرة ويؤلف ونحن بانتظاره»، يكون كمن حدّد فعلاً المهلة الكافية لتأليف الحكومة، وهذا ما لم ينصّ عليه الدستور، أما الإشارة إلى أنه بات عليه أخذ المبادرة، فإنها تضع الحريري تقريباً في موضع المتقاعس عن أخذ مبادرة التشكيل، وهذا ليس عادلاً قياساً بأمرين؛ أولاً: أن الحريري يريد تشكيل الحكومة الملائمة للمرحلة، وقد أعلن منذ البداية أنها ستكون حكومة وفاق وطني، قادرة على تأمين متوجبات المرحلة الدقيقة وخصوصاً لجهة إدارة البرنامج الاستثماري الإنقاذي الذي تمت الموافقة عليه في مؤتمر «سيدر» في باريس، ثم إذا كانت «التعددية الطائفية والحزبية في لبنان تخلق الكثير من المشكلات عند تأليف الحكومات» كما يقول عون، فهل فعلاً بات كافياً لكي يحلّ الحريري عقد الشراهة التوزيرية، التي يحاول تجاوزها دون تكسير الصحون، وبما يتوافق مع قواعد قيام حكومة وفاق وطني؟
ثانياً: وهو الأهم، من المعروف والواضح أن التقاعس ليس من عند الحريري، بل من عند الذين يتقاعسون عن المنطق وعن الالتزام بحصصهم في التشكيلة الوزارية، ويريدون أكل كعكتهم والقضم من كعكة الغير، وبعض هؤلاء وضع شروطه العرقوبية على طاولة قريطم، واستنكف عن المنطق معطّلاً قيام حكومة حتى الآن، وبدلاً من تحميل أصحاب الشراهة الوزارية المعروفة مسؤولية التأخير، هناك محاولات متصاعدة لتحميل الرئيس المكلّف هذه المسؤولية، وهو طبعاً ما دعاه أمس إلى التلويح بكشف المعرقلين وشروطهم المستحيلة!
في غضون ذلك، كان الرئيس نبيه بري واضحاً في تأكيد حرصه وحرص عون وحرص الحريري في الوصول إلى حكومة في أسرع وقت ممكن، لكن ذلك لا يحجب في النهاية ما يتردد عن اجتهادات التفافية على الدستور، تدور حول ما يسمّى «مهلة تأليف الحكومة» وهي غير منصوص عنها دستورياً، وتحاول القول إنه بإزاء العقد والمطالب يصبح «الجميع في حال من الأسر بانتظار إفراج الرئيس المكلّف»!، لكن الواقع معاكس تماماً لأن الرئيس المكلف هو الذي يقع في أسر الشروط العرقوبية، والحاجة العملية إلى أن يُفرج المعرقلون عن الحكومة بقبول حصصهم الطبيعية في التشكيلة الحكومية.
في النهاية يقف الحريري حاسماً وحازماً، عندما يقول إنه يعرف جيداً ما ينصّ عليه الدستور، في موضوع تأليف الحكومة وصلاحيات الرئيس المكلّف ونقطة على السطر، وقد بدا ذلك رداً طبيعياً على عون في مواجهة محاولات تحميله مسؤولية التأخير، وذلك وسط تسريبات وتصريحات ملغومة تطرح تكراراً فكرة اعتذاره عن التشكيل، وهذا ما لن يحصل قطعاً.
في هذا السياق، كانت قد نشرت عشية عودة الحريري إلى بيروت من عطلة عيد الأضحى المبارك، دراسة لوزير العدل سليم جريصاتي المقرّب من عون، محورها العنوان المشار إليه أعلاه أي موضوع «مهلة تأليف الحكومة»، وهدفها الواضح اقتراح مخارج قد يلجأ إليها الرئيس عون في محاولة لإنهاء تأليف الحكومة.
وبعد استهلالية عن عدم جواز بقاء البلاد في ظل حكومة تصريف الأعمال رغم حساسية المرحلة وصعوبة الاستحقاقات التي يواجهها لبنان، اعتبرت الدراسة أن حلّ هذه المسألة لا يكون إلا بالالتفات إلى دور رئيس الجمهورية، طالما أن توقيع مرسوم تأليف الحكومة يعود في النهاية إليه، وصولاً إلى الاعتذار عن التكليف!
لهذا تقترح الدراسة «خريطة طريق» لرئيس الجمهورية، كأن يقوم عون باستدعاء الحريري بهدف مكاشفته بأن المصلحة العليا لم تعد تحتمل التأخير في التأليف، ثم إعطائه التوجيهات اللازمة لإنجاز المهمة، وإذا لم يؤخذ بها يبادر الرئيس إلى التمني عليه الاعتذار عن التأليف!
طبعاً ليس في الدستور اللبناني شيء عن خريطة الطريق الرئاسية هذه، لكن الفقرة العاشرة من المادة 53 من الدستور تعطي رئيس الجمهورية حق توجيه رسالة إلى مجلس النواب، الذي من حقه الانعقاد ومناقشة الرسالة واتخاذ القرار المناسب، الذي يبقى في حدود الحثّ على التشكيل، لكن في وقت لا يحتاج الحريري إلى من يحثه، بل إلى من يحثّ المعرقلين على تسهيل مهمته الوفاقية الوطنية، بالتخلي عن المغالاة والشراهة في المطالب!
بإزاء الحديث عن «خريطة الطريق الرئاسية» برز يوم الثلاثاء الماضي كلام النائب بلال عبد الله عضو كتلة جنبلاط النيابية الذي وصف الوضع بأنه ليس جيداً، وأن هناك من عادت الأحلام تراوده، وهناك من يحاول إعادة إحياء ما طويناه بعد الطائف، ويحاول النبش في الدفاتر القديمة ولا يتطلّع إلى المستقبل... «لهؤلاء نقول لن ترغمونا على التراجع عن مواقفنا وثوابتنا وانتماءاتنا وارتباطاتنا، كنا وسنبقى داعمين للطائف، وسنبقى داعمين للرئيس المكلف سعد الحريري مهما حاولتم التآمر عليه»!
طبعاً في هذا الكلام رد واضح تماماً على كل محاولات الالتفاف على اتفاق الطائف الذي صار دستور البلاد، وما حدده من صلاحيات رئيس الحكومة المكلّف الذي يعرف تماماً مسؤولياته، كما يعرف أن المصلحة الوطنية تقضي بتشكيل حكومة وفاق وطني، تستطيع فعلاً أن تكون فريق عمل ينخرط في ورشة للنهوض الاقتصادي وفي برنامج من المشاريع، التي تماشي التزامات لبنان أمام الدول التي اجتمعت في مؤتمر باريس وتعهدت الدعم والاستثمار في مشاريع تبلغ قيمتها 18 مليار دولار!
في النهاية، إذا استمر الحفر تحت أقدام الحريري فإنه سيضع النقاط على الحروف موضحاً من الذي يعرقل ومن الذي يسهّل، ومن الذي يحاول القفز فوق الدستور، ولم يعد خافياً أن الرئيس المكلّف يضع الصيغة الحكومية في الوفاقية والمتوازنة والعادلة في جيبه، لكنه يسعى رغم العراقيل، إلى معالجة عقد وتعقيدات الذين وصل بهم الأمر إلى حد التدخل في مسؤولياته عبر شروطهم وكأنهم هم المكلفون تشكيل الحكومة العتيدة!
الصيغة جاهزة: حكومة من ثلاثين وزيراً وفق التوزيع «6 - 4 - 3 - 1 - 6 - 10»، بمعنى أن ينال الحريري ست حقائب، وتنال القوات اللبنانية أربع حقائب، والتقدمي ثلاث حقائب، وتيار المردة حقيبة واحدة، والثنائي الشيعي ست حقائب، والتيار الوطني الحر والرئيس عون عشر حقائب، وهذه الصيغة تؤمن التوازن المطلوب، وتخرج الجميع شركاء في السلطة التنفيذية وتعكس النتائج الانتخابية، وتحول في شكل ضروري دون أن ينال أحد الأطراف الثلث المعطّل داخل الحكومة، وتمنع قيام سيطرة محور سياسي معيّن على أكثرية الثلثين المقررة!
الحريري لا يحتاج إلى رسائل حثٍ على التشكيل، لا من رئيس الجمهورية ولا من مجلس النواب، بل يحتاج فعلاً إلى تواضع المستوزرين الشرهين، فما المانع من أن يقبل «التيار الوطني الحر» والرئيس عون مثلاً بعشرة وزراء بدلاً من 11؟
لا يتسع المجال هنا للحديث عن القتال المضحك المبكي حول الحقائب السيادية، وكل وزارة في لبنان سيادية، أولها خصوصاً وزارة البيئة، بعدما صار البلد «مزبلة المتوسط» كما يقول الأوروبيون، وثانيها وزارة محاربة الفساد، ولبنان بات مغارة علي بابا، ووزارة الفساد نائمة مع أهل الكهف، بينما يدور القتال على الدفاع والخارجية والداخلية والمالية... وأنعم وأكرم!