حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

«روسيا عالقة في سوريا»

تغيّر الكثير في سوريا عشية إحياء روسيا الذكرى السنوية الثالثة لبدء تدخلها العسكري. قبل ذلك كان النظام السوري لا يسيطر إلاّ على 18 في المائة من الأراضي، ورغم كثافة التدخل الإيراني إلى جانبه واستقدام الميليشيات المتطرفة لدعمه من لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان، فإن المجموعات المسلحة المناوئة، من جيش سوري حر إلى المجموعات المتطرفة التابعة للإسلام السياسي، وإرهابيي «داعش» و«النصرة»، كانت تطرق أبواب دمشق وتسيطر على المناطق الغنية بالنفط والماء والزراعة، وتحت يدها شبكة الطرق الرئيسية.
تغيّر المشهد كلياً، إذ تمت بفعل التدخل الروسية استعادة نحو 60 في المائة من مجمل المساحة السورية بينها أكثر المدن والقسم الأكبر من شبكات الطرق، فيما بلغت الهيمنة الأميركية المباشرة وعبر «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) على مناطق شرق الفرات وشمال - شرق سوريا نحو 28 في المائة من الأراضي، وتهيمن تركيا على نحو 10 في المائة في الشمال والشمال الغربي لسوريا، وما زالت بعض الجيوب المسلحة المعزولة في أرياف حلب وحماة واللاذقية وهي بحدود الـ2 في المائة. وهذا المشهد مرشح لمزيد من التغيير لمصلحة الهيمنة الروسية مع تقدم عمليات تفكيك وإنهاء هذه الجيوب المسلحة، إلى إنهاء الوضع القائم في إدلب. ويتردد أن موسكو منحت أنقرة فترة تمتد حتى نهاية العام الجاري، لفصل متطرفي «النصرة» عن المجموعات المسلحة الأخرى، وإجراء «معالجات» جراحية للحالات الأمنية، لتلافي عمليات تهجير واسعة كانت ستنجم عن شن حملة حربية كما ترغب طهران ومعها جهات رسمية فاعلة في النظام السوري.
لا شك أن موسكو عرفت كيف تنسج شبكة حماية لحربها الشاملة في سوريا، حيث استخدمت أكثر من 63 ألف ضابط وجندي و«اختبرت» 231 نوعاً من الأسلحة العصرية والمحدثة وفق بياناتها الرسمية. تمثلت شبكة الحماية بخلق شعور لدى الأوروبيين بأن تسونامي اللجوء سيتوقف، وبدت طهران وكأنها نجحت في استقدام الجيش الأحمر لتنفيذ استراتيجية قاسم سليماني، وجعلت موسكو من تدخلها ضرورة لأمن إسرائيل، وهذا ثابت ولا يناقش، كما رأت جهات عربية في هذا التدخل، انطلاقاً من استعصاء الحل السياسي السوري، ضرورة ستُفضي لكبح الهيمنة الإيرانية، وإعاقة عودة تركيا إردوغان إلى زمن الدولة العثمانية وأطماعها في المنطقة العربية.
تغيّر المشهد مع ذهاب موسكو إلى طرح مشروع دستور جديد للنقاش كرسالة منها أنها ساعية لحلٍ سياسي، والمشروع الروسي تحول إلى محور نقاش بين موسكو وحليفتيها طهران وأنقرة، وسيكون موضِع نقاش الأطراف الثلاثة مع الموفد الأممي ستيفان دي ميستورا في العاشر من سبتمبر (أيلول) المقبل، إلى طرح متقدم أكثر هو قضية عودة اللاجئين بوصفها المسألة الأبرز. وحددت أهداف المرحلة بعودة نحو مليون و700 ألف لاجئ من لبنان والأردن وتركيا وأوروبا. ويقوم الطرح الروسي على اعتبار أن العودة ستفضي حتما إلى الحل السياسي، وهذا يناقض القرار الأممي 2254 وبيانات جنيف وكلها كانت حظيت بالموافقة الروسية، وهي تقوم على أن التسوية السياسية والحل السياسي طريق العودة الآمنة للاجئين، بمعنى أن العودة يجب أن ترتبط بإزالة أسباب التهجير، أي معالجة مسببات الصراع وليس نتائجه.
عودة اللاجئين وعددهم يفوق الملايين الستة مطلب شعبي سوري لا جدال حوله، والأكثرية ممن يعانون شظف العيش في مخيمات البؤس أو يتكدسون في الضواحي الرثة للمدن الصناعية في أوروبا يريدون هذه العودة، لكن المراوحة في التنفيذ كشفت عن الأساسي وهو كيف تتم هذه العودة إلى حضن النظام الذي هجرهم دون حدٍ أدنى من الضمانات. كان العميد عصام زهر الدين قبل مقتله قد هدد من دير الزور اللاجئين بقوله: «لو سامحتكم الدولة فلن نسامحكم».. وقبله عبّر رئيس النظام السوري على أنقاض مدينة داريا التي تم اقتلاع سكانها عن ارتياحه للنسيج السوري في وضعه الجديد، وفي حديث متلفز قال الأسد: «السوري ليس من يحمل جواز السفر السوري، بل من دافع عنها».. و«اللاجئ السوري ليس أكثر من هارب من المعركة ففقد الجنسية». لكن بالتأكيد روسيا التي تسيطر على القرار العسكري السوري وتتابع قضم القرار السياسي، ليست بالتأكيد من هذه الوجهة التي تمنع العودة، بل هي جادة فيما تطرحه لأن نجاحها يقربها من تحقيق أهدافها وتكريس استعادتها لدور فقدته في المنطقة والعالم، لكن من المتعذر عليها توفير الحماية الجدية للعائدين، وسط أجواء طائفية مشبعة بالكراهية والرغبة في الانتقام، وليس أمام اللاجئين إلاّ مثال السويداء التي يتواصل تأديبها بعد المذبحة الوحشية التي تعرضت لها.
تطرقت موسكو غداة قمة هلسنكي التي أوحت بقبول أميركي بسوريا الروسية، لكن ليس دون مقابل، تطرقت إلى قضية اللاجئين من الزاوية الإنسانية، فتم طرح شعار العودة وطرح معه ضرورة توفير الإمكانات المادية لإعادة الإعمار وإحياء البنى التحتية.. ومضت موسكو في النهج الذي من شأنه أن يحصر بها كل شيء والأهم عملية إعادة الإعمار، والحديث يدور هنا عن الحاجة إلى مئات المليارات من الدولارات للبدء بترميم ما يُعاد لإعادة بناء 70 في المائة من المنازل المهدمة، إلى الدمار الكبير في البنى التحتية وخراب كل المؤسسات، ولم يتأخر جواب الأطراف القادرة على تمويل إعادة إعمار طويلة وصعبة، من واشنطن وبرلين مروراً بالأمم المتحدة، أن الحل السياسي ومن ضمنه إجراء انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة هو طريق العودة الحقيقية، وليست العودة مهما كان شكلها طريقاً للحل السياسي. وترددت في كل العواصم دعوة موسكو للعودة إلى مسار جنيف وفق القرار 2254 وطي صفحة مسار سوتشي، وبعبارة أخرى تم إفهام موسكو أن التفويض السابق لا يشمل تفويضاً بالانفراد بالحل، وبهذا المعنى يكون الحل بإشراف الأمم المتحدة وصفحة الانتقال السياسي ومصير الأسد لم تطو بعد.
في هذا التوقيت عادت واشنطن لاعتماد خطاب متشدد حيال سوريا كان قد غاب طويلاً مع ما كان يتردد عن تراجع الجانب الاستراتيجي الذي تشغله سوريا في الأجندة الأميركية. وميدانياً جرى تعزيز قوى التحالف الدولي وتم ترميم مطار الحسكة وآخر في عين عرب، وقدم الفريق الأميركي الخاص بسوريا رؤيته التي تتمثل في ضرورة إنهاء الحرب على «داعش»، وتقويض النفوذ الإيراني، والبداية حظر جوي وبري في شرق سوريا، والعودة إلى جنيف لتحريك المسار السياسي.. عودة اللاجئين هي بحكم المعلقة ووقائع جديدة تقدمت، وما لم تأخذها موسكو بالاعتبار فإن التسوية السياسية، ولا أحد يتحدث عن التسوية العادلة، ستكون صعبة المنال.. وإلاّ فإن ما ذكره جون بولتون من أن «روسيا عالقة في سوريا» سيكتشفه الروس بعد فوات الأوان.