مينا العريبي
صحافية عراقية-بريطانية، رئيسة تحرير صحيفة «ذا ناشونال» مقرها أبوظبي. عملت سابقاً مساعدة لرئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط»، وقبلها كانت مديرة مكتب الصحيفة في واشنطن. اختارها «منتدى الاقتصاد العالمي» ضمن القيادات العالمية الشابة، وتكتب عمود رأي في مجلة «فورين بوليسي».
TT

غياب ماكين يخلف فراغاً أميركياً

وفاة السيناتور جون ماكين وغيابه عن الساحة السياسية الأميركية يؤشر لنهاية حقبة مهمة في السياسة الأميركية؛ داخلياً وخارجياً.
فداخلياً، خدم ماكين بلاده على مدار 6 عقود في الجيش والكونغرس، لكنه فشل في الوصول إلى البيت الأبيض على الرغم من محاولتين. وبات يمثل أهم معالم الخدمة العامة والقدرة على العمل مع من يخالفه الرأي من أجل المصلحة الأعظم. أما خارجياً، فكان ماكين من أبرز أعضاء مجلس الشيوخ المهتمين بالشؤون الدولية، بعد أن قاتل في فيتنام ونجا من خمس سنوات من الأسر والتعذيب. كان ماكين مؤمناً بأهمية الدور العسكري في تحديد المصير، وأن القوة أحياناً تمثل الوسيلة الأكفأ للوصول إلى السلام. في الشؤون الداخلية والخارجية، كان ماكين مهتماً بتقريب الفجوات، بدلاً من زيادتها.
جسارة ماكين التي جعلته ثابتاً خلال الأسر في حرب فيتنام هي الشجاعة نفسها التي جعلته يتخذ مواقف سياسية شجاعة. ومن بين أبرز هذه المواقف قدرته على الاعتراف بالخطأ في دفعه لحرب 2003 في العراق، وإقراره بأن طريقة اتخاذ قرار الحرب كانت خاطئة. وفي مذكراته، كتب ماكين أنه «لا يمكن الحكم على (الحرب في العراق) إلا على أنها كانت خطأ، بل خطأ فادحاً، وعليّ أن أتحمل جزءاً من اللوم على ذلك». لكن هذا الاعتراف لم يجعله يتبرأ من المسؤولية، على العكس؛ كان حتى آخر يوم يطالب بالالتزام بالعراق ومساعدته على النهوض.
كان ماكين من أول المطالبين بزيادة القوات الأميركية في العراق بعد الانسحاب الجزئي خلال ولاية الرئيس جورج دبليو بوش الثانية، قبل أن تزيد الولايات المتحدة تعداد قواتها بقيادة الجنرال ديفيد بترايوس. عارض بعدها بشدة سياسة أوباما تجاه العراق والتراجع عن تعهدات الولايات المتحدة هناك. كما كان من المنتقدين للانفتاح الأميركي على طهران خلال رئاسة باراك أوباما، وشدد على ضرورة محاسبة إيران على ما رآه من تمادٍ إيراني زعزع المنطقة.
أما داخلياً، فكان قرار ماكين التصويت لصالح قانون الرعاية الصحية، ومنع خطط الجمهوريين لتعطيل القانون، تاريخياً وشجاعاً. انشق ماكين عن القرار الجمهوري، ولولا صوته في مجلس الشيوخ في يوليو (تموز) 2017، لكان الجمهوريون حققوا نصراً تشريعياً بإلغاء أحد أبرز التشريعات التي قام بها أوباما.
السيناتور عن ولاية أريزونا بات يمثل التزاماً سياسياً مبدئياً في الولايات المتحدة في وقت يقوم فيه الرئيس الحالي دونالد ترامب بتصرفات تؤجج الانقسامات الداخلية. طلب ماكين أن يكون خصماه في الحملتين الرئاسيتين أوباما وبوش هما من يلقي كلمات تأبين في عزائه، بدلاً من الرئيس الحالي، يبين مجدداً الاختلاف بين ماكين وترمب. مع ذلك، لا يمكن نسيان أن قرار ماكين ترشيح اليمينية سارة بالين لمنصب نائب الرئيس في حملته الانتخابية عام 2008، من أشد الأخطاء التي قام بها ماكين في حياته السياسية.
شكل ماكين الجزء الأهم من ثلاثي نادر في مجلس الشيوخ الأميركي ليس من المتوقع رؤية مثيل له. فكان ماكين وليندسي غراهام (الجمهوريان) وجو ليبرمان (الديمقراطي الذي أصبح مستقلاً لاحقاً) متقاربين في وجهات النظر المحافظة حول السياسة الخارجية، ويشددان على دور الولايات المتحدة الدولي. كانت علاقة ليبرمان - الديمقراطي السابق - بماكين قوية إلى درجة أنه اختار الانضمام إلى حملة ماكين الانتخابية ضد باراك أوباما عام 2008 بدلاً من أن ينضم إلى حملة الديمقراطي باراك أوباما. توفي ماكين، وتقاعد ليبرمان، وبات غراهام من المقربين إلى ترمب الذي يتبع سياسات الانقسام بدلاً من التلاحم.
التقيت بماكين أكثر من مرة من خلال العمل، وفي كل مرة كان بمنتهى الخلق والمهنية. لكنه في الوقت نفسه كان يتمتع بخفة دم، ويسارع بجعل كل من يلتقيه يشعر بالارتياح. وفي ندوة أدرتها خلال المنتدى الاقتصادي العالمي في البحر الميت عام 2013، تحدث ماكين عن ضرورة التحرك في سوريا. وعندما وجهت له أسئلة عن ضرورة العمل ضمن نطاق القانون الدولي وعدم تحرك أميركا بمفردها، قال: «لو اعتمدنا على مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لما كان بإمكاننا الذهاب للبوسنة أو كوسوفو... لقد قمنا بوقف الإبادة هناك، واليوم الإبادة في سوريا على نطاق أوسع بكثير من هناك». وكان ماكين من أول الداعين لضرب القوة الجوية السورية، قائلاً إن حرمان نظام بشار الأسد من القوة الجوية «العامل الفاصل» في تحديد مصير الصراع. وبقي لسنوات يطالب بالتحرك في سوريا، حيث زار المناطق التي سيطرت عليها المعارضة والتقى بعناصر سورية مختلفة من المعارضة والمجتمع المدني. كان من أبرز الداعين لتسليح المعارضة السورية. كما كان من أشد المعارضين لإيران وروسيا. اليوم، أوقفت الولايات المتحدة تسليح المعارضة السورية وأوقفت تمويل مشروعات استقرار المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري، وأصبحت روسيا وإيران اللاعبين الأساسيين في سوريا.
لا شك في أن ماكين كان، كالغالبية العظمى من أعضاء الكونغرس، مناصراً لإسرائيل، ولكنه في الوقت نفسه كان يطالب بحل الدولتين وإنهاء النزاع. وعلى الرغم من أن هذا كان الموقف التقليدي لغالبية الساسة الأميركيين، فإن سياسات الإدارة الحالية ذهبت بعيداً حتى عن هذا الموقف.
وفاة ماكين حدث يخلف فراغاً في الساحة السياسية الأميركية، وتغيير الموازين في تحديد الأهداف الاستراتيجية، من دون خروج رؤية جديدة. ولكن ما زالت القوات الأميركية منتشرة في أفغانستان والعراق في ما باتت تسمى «الحرب الأبدية».
بقي ماكين مهتماً بشؤون القوات المسلحة، خصوصاً الجنود البسطاء. التغريدة الأخيرة الصادرة عن حسابه الرسمي على موقع «تويتر» كانت في يوم 21 أغسطس (آب) الحالي، وتعبر عن تعازيه لعائلة الضابط تايلور غالفين الذي قتل بعد سقوط مروحيته في العراق. بقي جندياً إلى النهاية، مصرّاً على أنه خدم بلاده بأفضل طريقة كان يعرفها، حتى وإن لم تكن الطريقة المثلى. وعند الإعلان عن إصابته بمرض السرطان، بات ماكين يتحدث عن حياته وتجربته بشكل أوسع، ليكرر مراراً وتكراراً أنه كان محظوظاً لأنه خدم بلده.