إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

أورويل دائماً وأبداً

منذ زمان لم أتفاوض على سعر كتاب. لكن ذلك المجلّد الضخم الرابض في واجهة المكتبة كان يغازلني فاستسلمت. 380 صفحة من القطع الكبير والورق الصقيل تحمل مخطوطة «1984»، الرواية الأشهر للبريطاني جورج أورويل. هذه نسخة مصورة من الأوراق التي كتبها بخطّه، يقابلها النص مرقونا على الآلة الكاتبة القديمة، مع تصحيحات وتشطيبات وأسهم وإشارات تحيل كل صفحة خريطة متشابكة. من قال إن الكتابة الأدبية موهبة فحسب؟ أورويل يؤكد هنا أنها ملاحظة وتدقيق ومراجعة وتحوير وتشذيب وضبط موسيقى المفردات كما يدوزن العوّاد أوتاره.
تحتفل الأوساط الأدبية في الغرب بمرور 70 عاما على صدور الرواية. خيال يبدو وكأنه مكتوب لهذا اليوم. لقد انهار الاتحاد السوفياتي، أي نعم، وغابت الأنظمة الشمولية، وتمردت شعوب على الاستعمار، وتساقطت ديكتاتوريات، وبدا وكأن العالم طوى صفحة «الأخ الأكبر» ودشّن عهد الحرية. لكن الأخ خرج من الباب وعاد من ثقب التهوية. وفي كل شارع ومنعطف كاميرا تراقبك. وفي كفّك هاتف عفريت يتجسس عليك. والتزوير الذي كان بدائيا تطوّر وامتطى صهوة التكنولوجيا. وقد كان أورويل رائيا وعرافا فذا لكن توقعاته توقفت عند منتصف ثمانينات القرن الماضي. كتب روايته سنة 1948 وأراد أن يسمّيها «الرجل الأخير في أوروبا». ثم استقر على «1984»، متلاعبا بأرقام السنوات. لقد تصوّر أن الهيمنة على البشر ستبلغ أوجها في ذلك التاريخ. وهو لو عاد إلى دنيانا وعايش أحوالها لربما اختار «2048».
بعد نجاح روايته «مزرعة الحيوانات» راح ناشره يطالبه بكتاب جديد. كيف يفعل وقد أصبح أرمل، فارقت زوجته الحياة أثناء عملية جراحية وتركت له رعاية طفلهما بالتبني؟! كان يدخّن كثيرا ويسعل كثيرا ويعرف أنه السّل وأن نهايته وشيكة. لكنه لن يموت قبل أن ينفض ما في صدره من دم متخثر ورواية يقبض عليها كما الجمرة، يعايش شخصياتها الخائفة المرتعدة فيرتعد معها.
في جزيرة اسكوتلندية صغيرة، حيث لا جيران ولا صحافيين يطلبون مقابلات، اقتنى أورويل مزرعة منعزلة. ولحقت به شقيقته للاهتمام بالطفل. كان يصطاد السمك والأرانب ويزرع الخضار ويكتب. أقام في منزل أبيض مواجه للبحر «تنمو حول نوافذه أشجار السرخس وتطل أيائل عملاقة برؤوسها». هكذا وصف المكان صحافي زار المكان. ومنذ أواسط القرن الماضي وحتى اليوم ما زال القراء المغرمون يقصدون «بارنهيل»، يزورون البيت الذي كتب فيه أورويل روايته الأشهر. يتوقفون عند طاولة المطبخ التي كان يشتغل عليها قرب الموقد الحجري، الموضع الدافئ الوحيد في البيت. عاش ليكتب ومات ليكتب. وقال، في مقال له، إن المرء لن يكتب شيئا يستحق القراءة ما لم يجاهد باستمرار لمحو شخصيته.
صدرت الرواية وزلزلت زلزالها. رأى نجاحه بأم عينيه ومات بعد سنتين بنزيف رئوي. ومنذ ذلك الحين يتعارك اليساريون والليبراليون على نسبة أورويل لهم. وقد سعيت في بغداد، ذات يوم بعيد، للحصول على طبعة من تلك الرواية مترجمة إلى العربية. وقيل إنها ممنوعة، وهناك نسخة وحيدة في مكتبة التوجيه العسكري، على شاطئ دجلة في الأعظمية. أي رقيب «عايف دمّه» يجرؤ على إجازة رواية تتحدث عن الفرد المفرد في مواجهة نظام كاسح يصادر الحق في التفكير ويحصي الأنفاس؟ كان الصديق الشاعر فاروق يوسف يمضي خدمته العسكرية في تلك المكتبة. انصاع لإلحاحي وخالف الأوامر وأعارني «1984» لأستنسخها. غير أن الاستنساخ ممنوع من دون علم الجهاز الأمني. لكن تلك حكاية أخرى.