عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

سيناريو الكارثة

هل لك أن تتخيل أن منظر صفوف الانتظار أمام محطات الوقود، والتكدس للحصول على بعض السلع والمواد التموينية أو الأدوية الذي أصبح أمراً عادياً في السودان على سبيل المثال، يمكن أن يحدث أيضاً، ولو بشكل مؤقت، في بريطانيا في تاريخ غير بعيد؟
هذا ما تحذر منه منذ أشهر الكثير من الدوائر، ومن بينها جهات رسمية، إذا حدث «السيناريو الكارثة» المتمثل في خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي من دون أي اتفاق ينظم عملية الخروج أو يحدد شكل العلاقة المستقبلية بين الطرفين. وتصاعدت التحذيرات والمخاوف في الآونة الأخيرة، في ظل التخبط الحاصل بعدما قوبلت آخر المقترحات التي قدمتها حكومة تيريزا ماي بتحفظات تصل إلى حد الرفض لبعض بنودها الأساسية، من قبل الاتحاد الأوروبي، وبانتقادات حادة من داخل حزب المحافظين الحاكم وخارجه. فبريطانيا تقف اليوم على مسافة سبعة أشهر فقط من سيناريو الكارثة، من دون أن تظهر بوادر على صفقة تنقذ المفاوضات المتعثرة بينها وبين الاتحاد الأوروبي.
واعتباراً من اليوم سيطلع الناس في بريطانيا على أول دفعة من حزمة الأوراق التي أعدتها الحكومة لـ«سيناريو الكارثة»، وستكون هذه المرة الأولى التي تتاح لهم الفرصة لمعرفة كيف تفكر الحكومة في مواجهة تبعات هذا السيناريو على القطاعات الحيوية في البلاد، من قطاع الخدمات المالية إلى الرعاية الصحية مروراً بالزراعة والصناعة والتجارة وغيرها.
في المجموع، يفترض أن تنشر الحكومة على دفعات منذ اليوم وحتى نهاية الشهر المقبل نحو 84 ورقة أعدتها منذ فترة، لكنها فرضت حولها طوقاً من السرية طوال الأشهر الماضية. موافقة حكومة تيريزا ماي على نشر هذه الأوراق وما تحويه من خطط الطوارئ التي أعدتها الوزارات المختلفة، توحي بأن احتمال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق «بات عالياً بدرجة غير مريحة»، على حد تعبير مارك كارني، حاكم البنك المركزي البريطاني. فوفق ما هو مقرر ستنتهي عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي في مارس (آذار) من العام المقبل، بعدما صوّت البريطانيون على الخروج الـ(بريكست) بأغلبية ضئيلة في استفتاء عام 2016. منذ ذلك الحين أضاعت الحكومة البريطانية أزيد من عامين في التخبط والتسويف بسبب الحرب المحتدمة داخل حزب المحافظين وخارجه حول واحد من أخطر الملفات التي تواجه البلاد في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ومع اقتراب الموعد المحدد لمغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي يتصاعد الاستقطاب، سواء وسط الطبقة السياسية أو في الشارع البريطاني. فعلى المستوى السياسي، هناك تياران يتصارعان حول مفهوم الـ«بريكست» وشكله. التيار الأول يريد خروجاً ناعماً أو النكوص كلياً عن الـ«بريكست» بوصفه أكبر عملية إضرار بالذات مارستها بريطانيا ضد نفسها. وهذا التيار الذي يضم نواباً من حزب المحافظين الحاكم وحزب العمال و«الأحرار الديمقراطيين»، ورجال أعمال واقتصاديين يزداد قوة وزخماً كما تظهر استطلاعات الرأي العام، التي أشارت إلى أن غالبية البريطانيين باتوا مقتنعين اليوم بأن الخروج من الاتحاد الأوروبي سيكون خطأً كبيراً، وبالتالي يدعمون إجراء استفتاء شعبي على الاتفاق النهائي بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، لتكون الكلمة النهائية لهم، بما يتيح إيجاد مخرج سياسي وقانوني للتراجع عن «بريكست»، إذا لم يتم التوصل إلى صفقة مرضية.
أما التيار الآخر، فيريد «بريكست» خشناً، تخرج بمقتضاه بريطانيا من مؤسسات الاتحاد الأوروبي كافة. ويعارض هذا التيار بشكل حاسم خطة تيريزا ماي لشكل العلاقات المستقبلية مع الاتحاد الأوروبي التي أعلنتها الشهر الماضي. وبات نايجل فاراج، الزعيم السابق لحزب «استقلال بريطانيا» اليميني الشعبوي، الوجه البارز لهذا التيار بعدما قرر أخيراً بدء جولات بطول بريطانيا وعرضها للترويج للـ«بريكست» ومواجهة الشعبية المتزايدة للمعسكر المؤيد للبقاء في الاتحاد الأوروبي.
لكن معضلة هذا التيار أنه ما زال منقسماً بشكل حاد بين مؤيدي الـ«بريكست» «البراغماتي» مثل وزير التعاون الدولي ليام فوكس، ووزير الخارجية جيريمي هنت، ووزير العدل مايكل غوف، ومؤيدي الـ«بريكست» «الآيديولوجي» مثل وزير الخارجية المستقيل بوريس جونسون، وعضو مجلس العموم جاكوب ريس موغ، ونايجل فاراج.
وحتى داخل معسكر الـ«بريكست» الآيديولوجي هناك انقسام. فبوريس جونسون رفض الوقوف على منصة واحدة مع فاراج في إطار حملة «البريكست يعني البريكست»؛ وذلك لأنه يتخوف من تأثير الميول اليمينية الشعبوية المتزايدة لفاراج على حظوظ جونسون للمنافسة على زعامة حزب المحافظين ورئاسة الحكومة إذا ما قرر تحدي تيريزا ماي خلال الأسابيع أو الأشهر المقبلة.
ولا تقتصر الانقسامات على حزب المحافظين الحاكم، فهي تضرب أيضاً حزب العمال المعارض. فزعيم الحزب جيرمي كوربن ما زال يرفض فكرة إجراء استفتاء شعبي ثانٍ على الـ«بريكست»، على الرغم من أن الكثير من وجوه الحزب البارزة تدعم فكرة استفتاء ثانٍ، أو تمديد تفاوض بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي لمنع «بريكست» حافة الهاوية الذي سيؤدي إلى ضرر بالغ على اقتصاد بريطانيا ومكانتها الدولية، وبموقع مدينة لندن المالي.
نشر الأوراق التي أعدتها الحكومة لسيناريو الكارثة اعتباراً من اليوم، سيكون فاتحة لجولة جديدة من النقاش الحاد حول كيفية الخروج من نفق الـ«بريكست» المظلم.