علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

القرضاوي يعلمن الندوي رغم أنفه!

وجد أبو الحسن الندوي نفسه في وضع شائك، فهو إن ذكر تلك المعلومة، خرج على ما استنّه الإسلاميون في الكتابة الإسلامية، ألا وهو «التعمية» على حوادث التضييق والاضطهاد والتعذيب والقتل في التاريخ الإسلامي لأصحاب الآراء المخالفة وطمسها. وكان من الشاق عليه أن يخرج على طريقة في كتابة الإسلاميات، هو اسم رئيسي في تحديد منهجها ورسم معالمها. وإن ذكرها فلا بد له إما أن يعيد قول كلام الإسلام الإصلاحي الذي ينطوي على انحياز لحرية الفكر وحرية العقيدة، وهذا ما ينقض مشروعه الأصولي الذي يسعى فيه من منظور ديني زميت إلى تحرير الإسلام الإصلاحي من «أوشاب» الليبرالية وتخليصه من «أوضار» الفكر الغربي اللذين خالطاه ومازجاه، وإما أن يذكرها ويزكي العقوبات التي نالها أولئك، وإن فعل ذلك، فسيقع في أكثر من مأزق. أولها أن الإسلاميين يعمّون على تلك الحوادث ويطمسونها ولا يصرحون بتأييدهم للعقوبات التي جرت فيها، لأنهم مسكونون بعقلية المفاضلة ما بين الإسلام والحضارة الإسلامية وما بين الغرب والحضارة الغربية من جهة، والمفاضلة ما بين الإسلام والتاريخ الإسلامي وما بين المسيحية والتاريخ المسيحي من جهة ثانية. وثانيها، تزكية عقوبة قتل الذين اتهموا بالمروق أو الزندقة في التاريخ الإسلامي تتضمن دعوة صريحة لقتل الطبقة المثقفة التي اتهمها هو بالردة عن الإسلام وبالمروق منه، وهذا ما سيهيج الرأي العام عليه وعلى الطرح الإسلامي الحركي الذي كان حين كتب مقاله وحين نشره في كتيب لا يزال وليداً غضّاً يتلمس طريقه في اجتذاب جمهرة غفيرة من المتعلمين. وأضف إلى ذلك أن الإسلاميين كانوا من منتصف الخمسينات يقدمون أنفسهم على أنهم دعاة للحرية وأنهم ضحايا وشهداء بسبب غيابها. وثالثها أن من بيده إنفاذ حد الردة هي السلطة، وثمة إشارات في الرسالة أو الكتيب إلى أن السلطة بمستوياتها الهرمية المختلفة تدخل ضمن الطبقة المثقفة في العالم الإسلامي التي وصمها بالردة.
لكل ما تقدم في شرحنا السالف في هذا الشرح فضل أن يغفل تلك المعلومة.
تجدر الإشارة إلى أنه في رسالته أو في كتيبه «ردة ولا أبا بكر لها» يستعمل تعبير الطبقة المثقفة - وهي الطبقة الموصومة عنده بالردة - بمعنى عام وواسع، يشمل كل المتعلمين تعليماً حديثاً سواء أكانوا مثقفين أم غير مثقفين. وبتحديد أكثر يعني بها كل المتعلمين تعليماً حديثاً في العالم الإسلامي الذين لا يشاركون الإسلاميين في معتقداتهم وآرائهم وموقفهم المعادي للحضارة والثقافة والعلم والتعليم الغربي.
وهذه الردة - الردة الدينية - يشمل بها أيضاً كل قُطر من الأقطار الإسلامية وقلما خلت منها أسرة من أسر المسلمين. وهذا ما قاله نصاً.
نعود إلى سؤالنا: لماذا كان عنوان رسالته أو كتيبه «ردة ولا أبا بكر لها» وليس «قضية ولا أبا حسن لها»؟ للإجابة عنه، ولتتمة مناقشة حكايته مع الخميني حين لقيه بمكة في جلسة من جلسات رابطة العالم الإسلامي سنة 1964.
الرسالة أو الكتيب - كما حدثنا الندوي - هو في الأصل مقال نشره في حلقتين في مجلة «المسلمون». كان عنوان الحلقة الأولى «ردة جديدة»، وكان عنوان الحلقة الثانية «دعوة جديدة». وفي مناقشتي لهذين العنوانين أوضحت أن العنوان الأول يتطابق مع فكرة المقال ومع مضمونه على نحو دقيق.
وأشرت إلى أنه في المتن قد قال: «لقد قالوا قديماً: قضية ولا أبا حسن لها، وأقول: قضية ولا أبا بكر لها». وقد قلت: إن تحويره لهذا القول كان غير مفهوم وغير مبرر. فهو لو قال:... وأقول: ردة ولا أبا بكر لها وليس قضية ولا أبا بكر لها، لكان التحوير مفهوماً ومبرراً.
ويبدو أن هذا التحوير على هذا النحو لم يتخمر عنده إلا مع طباعته المقال في رسالة مستقلة، فجعله عنواناً لها، وأبقى التحوير الحاصل في المتن على ما هو عليه.
الخميني - كما في الحكاية التي رواها الندوي - اعتراضه منحصر في العنوان، فهو يرى أن تسمّى الرسالة «ردّة ولا أبا حسن لها» وليس «ردة ولا أبا بكر لها».
وهذا يعني أنه متفق مع الندوي في أن الأمر الذي طرحه، هو ردة «وليس» «قضية» تختلف الآراء فيها وتتعدد. ويعني أنهما متفقان على هذا القول التكفيري المتطرف الخطر الجديد. وهو مختلف معه في أن الحرب على هذه الردة يجب أن تخاض باسم علي وليس باسم أبي بكر.
الخميني بما يراه أنه هو الصحيح أو الأصح بما يجب أن يكون عليه العنوان لم يلتفت إلى مشكلتين، هما:
الأولى، أن حروب الردة التي خاضها أبو بكر الصديق في مذهب الخميني الديني هي حروب مدانة، وهي من المثالب والمطاعن الموجهة إلى خليفة المسلمين الأول في كتب مذهبه القديمة والحديثة.
الأخرى، أن علياً بن أبي طالب لم يخض حروباً تسمى حروب الردة، إلا إذا كان يعتبر حرب الجمل وحرب صفيّن وحروبه مع الخوارج، قتالاً خاضه الخليفة المسلم الرابع ضد مرتدين!
مما يستفاد من الحكاية التي رواها الندوي أن كتيبه التكفيري - بما حمله من فكرة جديدة خطرة - قد حظي بقبول لدى الإسلاميين الشيعة رغم تحفظهم الشكلي على عنوانه. ولأهمية الكتيب الكبيرة عند الإسلاميين عامة وزعوه في مواسم الحج على الحجاج في منى وعرفات وترجموه إلى لغات متعددة.
هذا الكتيب لدى الإسلاميين هو كتيب تثقيفي أساسي تربت عليه أجيال متعاقبة من الإسلاميين. وهذا الكتيب يقدم مسوغاً من مسوغات أولوية الجهاد في سبيل الله في الداخل (داخل العالم الإسلامي) على الجهاد في سبيل الله في الخارج (خارج العالم الإسلامي).
لننظر فيما يقوله عن الكتيب، منظّر إسلامي غزير الإنتاج وذو تأثير كبير على الإسلاميين وبخاصة الإسلاميين السنة.
في دراسة له عن صاحب الكتيب، قال يوسف القرضاوي عن الكتيب: إنه رسالة بديعة!
واستناداً إلى الكتيب، اعتبر أن «مقاومة الردة الفكرية» من ركائز الدعوة في فقه الدعوة عند الندوي.
حين نقرأ الكلام الذي جاء تحت هذه الركيزة نجده يميز ما بين ردة دينية وردة أخرى، فيقول: «فكما قاوم الشيخ الردة الدينية التي تمثلت في القاديانية... لم يألُ جهداً في محاربة هذه الردة العقلية والثقافية».
الردة الأخرى في تمييزه هي ردة عقلية وثقافية وليست ردة دينية.
أي أن القرضاوي في هذا التمييز وهذا الاستخدام يستخدم لفظ أو مصطلح ردة بالمعنى الذي يستخدمه المثقفون العلمانيون لهذا اللفظ أو المصطلح، والمفرغ من محتواه الديني والنقيض لاستخدام الدينيين والإسلاميين له. إذ إن العلمانيين، وبخاصة الماركسيون، يستخدمون «ردة» و«ارتداداً» للإشارة إلى المثقفين العلمانيين، وإلى المثقفين الماركسيين الذين تحولوا جزئياً أو كلياً إلى اتجاهات دينية، ويستخدمونه للإشارة إلى الفكر العربي العلماني الحديث الذي هيمنت عليه في عقود متأخرة اتجاهات دينية شتى.
إن تمييز القرضاوي بين ردة دينية وردة عقلية وثقافية، لا أصل له لا في عنوان الكتاب ولا في متنه. فعنوانه «ردة ولا أبا بكر لها» يتضمن مماثلة دينية وتاريخية بين القبائل العربية التي ارتدت عن الإسلام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المتعلمين المسلمين في القرن التاسع العشر وفي القرن العشرين الذي رأوا ضرورة المقابسة من الحضارة والثقافة الغربية، إما جزئياً وإما كلياً. وفي متن الكتيب لم يستخدم أبو الحسن الندوي أبداً تعبير الردة العقلية ولا تعبير الردة الثقافية، وإنما كان يستخدم تعبير الردة الدينية.
إن الذين رأوا من المسلمين ضرورة المقابسة من الحضارة والثقافة الغربية، لم يقولوا نهائياً - حتى الراديكاليون منهم - إنه من موجبات هذه المقابسة أن نغير ديننا، وإنما هم يرون أنه بالإمكان المواءمة ما بين كونهم مسلمين وبين نهلهم من معين الحضارة والثقافة الغربية.
ومع هذا يغالط أبو الحسن الندوي، ويدعي أن المقابسة مع الحضارة والثقافة الغربية، هي ديانة وإن لم يدخل صاحبها كنيسة أو هيكلاً، ولم يعلن ردته وانتقاله من دين إلى دين!
السؤال الذي لا نجد إجابته إلا عند القرضاوي - هذا إن صدق - : لماذا علمن الندوي في كتيبه «ردة ولا أبا بكر لها» رغم أنف هذا الكتيب؟! ولماذا قبل نحو خمس سنوات من تأليف هذه الدراسة عن الندوي، قال في دراسة أخرى عنوانها «جريمة الردة وعقوبة المرتد» كلاماً ينقض كلامه السالف؟!
ففي هذه الدراسة قال: «ومن الخطر كل الخطر أن يبتلى المجتمع المسلم بالمرتدين المارقين، وتشيع بين جنباته الردة، ولا يجد من يواجهها ويقاومها، وهو ما عبر عنه أحد العلماء عن الردة التي ذاعت في هذا العصر بقوله: «ردة ولا أبا بكر لها»... وللحديث بقية.